صرخة ادريس بنزكري الثانية




صرخة ادريس بنزكري الثانية
عزيز إدمين


تستعد الحركة الحقوقية المغربية خلال نهاية هذا الاسبوع، أن تعقد لقاءا موسعا من أجل تقييم مسار تنفيذ توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، في علاقة بعدة محاور، سواء تعلقت بجبر الضرر الفردي والجماعي أو الاصلاحات السياسية والمؤسساتية والتشريعية، أو الحقيقة وحفظ الذاكرة والارشيف.
يأتي هذا التقييم في سياقات متعددة، منها ما أصبح يعبر عنه بعض الاطراف المكلفة بتتبع تنفيذ التوصيات، بكون الملف استنفذ كل امكاناته وبالتالي وجب اغلاقه، وسياق أخر مرتبط بولوج فاعلون جدد لهذا المسار، حيث لم يعد مقتصرا على ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان إبان فترة الرصاص وذويهم، بل أصبح ملكا لكل المغاربة وخاصة منهم الشباب المتمسكون بتحقيق "ضمانات عدة التكرار" صونا لمستقبلهم ومستقبل الاجيال اللاحقة، وأيضا في سياق أخر متعلق بتنامي الحركات الاحتجاجية وما يعقبها من تدبير أمني ومتابعات قضائية جماعية وارتفاع منسوب ادعاءات التعذيب من قبل مجموعة من الموقوفين على إثر هاته التظاهرات.
إذا كانت انطلاقة تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب، من خلال إنشاء هيئة الانصاف والمصالحة تمت من خلال تسوية وتفاوض سياسيين، بين الدولة والحركة الحقوقية المغربية، على عناصر العدالة التصالحية عوض العدالة العقابية، والنقاش العمومي في الفضاءات العامة بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية عوض النقاش في ردهات المحاكم، فإن اغلاق الملف لا يمكن أن يكون قرارا فرديا ولا أحاديا، بل يقتضي بالضرورة أن يكون "تسوية" جديدة بين كل مكونات الشعب المغربي وحساسياته مع الدولة، وفق أجندة جديدة وبمسارات ورهانات جديدة، وهو ما يتطلب من العقل الحقوقي المغربي ابداع عناصر تهم استكمال الشروط العامة للمصالحة، وهي مصالحة مع التاريخ ومصالحة الدولة مع المجتمع، ومصالحة المجتمع مع ذاته.
كما أن ولولوج الشباب وفاعلون جدد من جمعيات حقوقية وحركة نسائية وأمازيغية ... في هذا المسار، أعطى للتجربة المغربية بعدا أخر، إذ لم يعد تدبيرها محتكرا على الضحايا وممثليهم، بل أصبح شأنا عاما وطنيا ومجتمعيا، وهيمنة هاجس "المستقبل" بدل تكرار قصص الماضي الاليم بما يحمله من رواسب نفسية وجروح التعذيب والاختطاف والمنفى، إذ أن النقاش اليوم حول مغرب الغد قائم على بعدين أساسيين: عدم الافلات من العقاب وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهما بعدين يكرسان آليات عدم تكرار ماضي انتهاكات حقوق الانسان، سواء تعلق الامر بانخراط المغرب بشكل كامل في المنظومة العالمية لحقوق الانسان، أو سن تشريعات متلائمة مع المعايير الدولية ، أو فتح ورش الحكامة الامنية أو إعداد وتنفيذ سياسات عمومية معنية بحماية الحقوق والنهوض بها.
ولكن ضمن هذا الزخم المتعلق بتنفيذ توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، وبعد سنوات من صدور التقرير الختامي للراحل "ادريس بنزكري"، فالاحتجاجات الاجتماعية في المغرب لازالت مستمرة، وهي احتجاجات عرفت ذروتها في الحسيمة وجرادة ومناطق أخرى، حيث خرج الناس يطالبون بأبسط الحقوق ( مستشفى ، مدرسة، العمل، الماء ...) إلا أن الجواب في حالات كثيرة كان جوابا أمنيا، استعملت فيها القوة غير المتناسبة في فظ التظاهرات، وما رافق ذلك من اعتقالات جماعية لم تمييز بين الطفل والمرأة والشباب، ومحاكتهم بعقوبات قاسية أحيانا.
كما عرف الفترة الاخيرة، ارتفاع منسوب ادعاءات التعذيب من قبل الموقوفين، بل وصل الامر إلى تسريب فيديو مهين وحاط بالكرامة لناصر الزفزافي وهو شبه عاري، وتصريح عدد من المتابعين على ضوء التظاهرات الاجتماعية بكون محاضر الشرطة لا تعكس إفاداتهم وتم الغلو فيها أو تحريف مضامينها.
هذه العناصر تضع مسار العدالة الانتقالية كله محط امتحان وتساؤل، مما قد يؤدي إلى نسف المجهود الكبير المحقق في مجال المصالحة وجبر الضرر، وكأن بهيئة الانصاف والمصالحة مجرد عملية أنجزت مهمتها (السياسية) وقد حان وقت انهاء "مسرحيتها" جملة وتفصيلا.
بقي ملف أخر مفتوح ، وهو ملف الاختفاء القسري، إذ أن الدولة بشكل رسمي تعترف بوجود حالات عالقة لم يعرف الى الان مصيرها، فإن الملف سيبقى مفتوحا لكون جريمة الاختفاء القسري لا تتقادم ولا تنتهي إلا بعض ظهور الحقيقة، مما يتطلب من الحركة الحقوقية ان تلتف حول هذا الموضوع وعدم تضييعه في نقاشات مشخصنة أو منحرفة عن سياقه العام.
الحركة الحقوقية المغربية في الاسبوع المقبل بمراكش أمام التحديات التالية:
احياء من جديد النقاش حول المصالحة بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والحقوقية والتاريخية؛
جعل ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة مفتوحا، سواء تعلق الامر بدعم وتقوية المؤسسة الوطنية لحقوق الانسان للاستمرار في تتبع هذا الملف، أو خلق الية وطنية جديدة قادرة على استكمال ورش العدالة الانتقالية؛
إبداع صيغ جديدة تقي المجتمع من الصدامية بين "الامني" و"الحقوقي"، والتفكير في خلق دوائر يتقاطع فيها هاذين المجالين على قاعدة  "الامن حق من حقوق الانسان"؛

 Aziz IDAMINE






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين