تفاعل مع نقد التنظيم العالمي للإخوان المسلمين
تفاعل
مع نقد التنظيم العالمي للإخوان المسلمين
عزيز
إدمين
تزامن
المعرض الدولي للكتاب والنشر لهذه السنة، مع صدور كتاب تحت عنوان عريض
"تحولات الجماعات الإسلامية"، وعنوان أسفله "التنظيم العالمي للإخوان
المسلمين أنموذجا"، لمؤلفه الفاعل السياسي السيد إلياس العماري.
بداية،
نورد ملاحظة عامة، وهو شح الكتابات السياسية من قبل الفاعلين السياسيين بالمغرب،
فهناك من يُرجع السبب إلى انشغالهم باليومي الذي يتطلب من الجهد والوقت الشيء
الكثير، وهناك من يرى أن الحقل السياسي مليء بالتقاليد والأعراف، التي لا تسمح لهم
بالكتابة، إما خوفا على مصالحهم وامتيازاتهم، أو من "إغضاب" جهات ما.
لهذا،
فإن هذا الكتاب، الذي بين أيدينا، يعيدنا إلى الرعيل الأول من السياسيين، الذين
كتبوا في مجالات السياسية والدين والاقتصاد والثقافة، من أمثال علال الفاسي،
المهدي بن بركة، محمد بلحسن الوزاني، وغيرهم من جيل مغرب ما بعد الاستقلال، لهذا
فأكيد أن هذا الكتاب سيجد له مكانا في "مكتبة" الكتابات السياسية في
المغرب المعاصر.
في
هذا السياق تأتي المساهمة في مناقشته من زوايا متعددة نجملها في ما يلي:
أولا:
على المستوى المنهجي
اعتمد
المؤلف لغة سلسلة وغير معقدة، حيث يستطيع أي شخص أن يقرأه بسهولة، سواء كان متخصصا
في الجماعات الإسلامية أو علم السياسية أو صحافيا، أو مواطنا يرغب في إشباع فضوله
عن حركة إسلامية تشغل بال العالم.
يصر
المؤلف على أن يقوم بنوع من "الهجرة" بين المرجعيات، فنجده يبحث في أفكار
"معالم في الطريق" لسيد قطب، وفي نفس الوقت، يتناول مفهوم الدولة عند
هيغل في وصفه لنابوليون بونابارت.
ويحذر
القارئ من التجريدية، أو كما عبر عنها بذلك بالمنظور الستاتيكي للموضوع، لأن إشكاليات
الحركات الإسلامية، هي زئبقية ومتحولة في المجتمع، وأيضا "دياكرونية" في
التاريخ.
يعتبر
المؤلف أن الفكر الإخواني له امتدادات في أنساق عديدة فكرية وسياسية واجتماعية
وتنظيمية، وليس في نسق واحد ثابت أو هيكل تنظيمي جامد.
ويدعو
إلى عدم تحميل الكتاب ما لا طاقة له به، فإنه لن يكون جوابا عن تنظيم جماعة الإخوان
المسلمين عبر العالم، وإنما، ولأسباب منهجية وأخرى موضوعية، ولحضور الذاتي في الموضوع،
يحصر النقاش فقط في النموذجين المصري والمغربي، كما أنه يتبرأ من الرجوع إلى أصول
النشأة والأفكار الأولى، نظرا لوجود تراكم هائل في هذا الموضوع، لكنه يستحضر تجربة
الإخوان "كتنظيم " (أي التفكير في الإخوان المسلمين بأبعاد استراتيجية)
خلال العشر السنوات الاخيرة.
ثانيا:
على مستوى المضمون
يمكن
تقسيم الكتاب إلى محورين:
المحور
الأول يتعلق بنشأة تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، الذي جاء أربع سنوات بعد سقوط
الإمبراطورية العثمانية سنة 1924، ثم امتداده وصعوده، وصولا إلى بدايات الانهيار.
أما
المحور الثاني فهو مرتبط بالتحديات التي تواجه تنظيم الإخوان المسلمين أمام
التحولات الدولية والإقليمية والوطنية.
1-
التحقيب
الحقبة
الأولى: النشأة
انطلقت
هذه الحقبة سنة 1928 مع حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بمصر، والتي عرفت
إنتاج أدبياتها السياسية والتنظيمية من قبل مؤسسها، كما قام بتأسيس مواقفه من
القومية والوطنية ودعوته إلى الأممية الإسلامية، حيث الإسلام لا يعترف بالحدود،
والوطن الإسلامي واحد مهما تعددت أقطاره.
الحقبة
الثانية: التوسع والانتشار
انطلقت
هذه الحقبة سنة 1933، وامتدت إلى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، حيث تم تأسيس
فرع الإخوان المسلمين في جيبوتي، وبعدها في سوريا سنة 1945، وفلسطين والسودان
وتطوان المغرب سنة 1946، كما تم اعتماد بيروت عاصمة دولية، وتم خلال هذه الحقبة
إنشاء شعب أخرى في إندونيسيا وباكستان ثم منطقة الخليج، وعلى رأسها قطر، وهو ما
سمح بإنشاء أقطاب كبرى عبارة عن لجن: لجنة الشرق الأدنى بالأردن، ولجنة الشرق الأقصى
ولجنة الإسلام في أوروبا.
الحقبة
الثالثة: التمدد
يسجل
المؤلف أنه بعد حادثة المنشية سنة 1954 بمصر، حيث تم إطلاق النار على الرئيس
المصري الراحل جمال عبد الناصر، والتي يسميها الإخوان المسلمون بـ"المحنة
الثانية"، برز اسم إخواني، هو سعيد رمضان، الذي قام بتأسيس المركز الإسلامي
بميونيخ الألمانية، ويعتبره المؤلف البداية الحقيقية لتأسيس التنظيم العالمي إلى غاية
السبعينيات، وهي الفترة التي عُرفت بانتشار واسع لـ"الفكر القطبي" حول "حاكمية
الله في الأرض، وجاهلية المجتمع، وعقيدة الطليعة المؤمنة"، أي منافسة شرعية
الدولة ككل باعتبارها شرعية مستقلة عنها.
وهي
الحقبة، أيضا، التي عرفت التغلغل في أمريكا وكندا عبر الطلاب العرب سنة 1963،
وتأسيس اتحادات عامة وأخرى مهنية ومختصة، كالأطباء والمهندسين وعلماء الاجتماع...
وفي أوروبا، كذلك، حيث اتخذ التنظيم شكل مؤسسات خيرية ومنظمات دينية، وإنشاء اتحاد
المنظمات الإسلامية في أوروبا، مثل تنظيم الإخوان المسلمين في أوروبا ويوجد مقره
في بروكسيل.
الحقبة
الرابعة: الهزة التنظيمية
أدت
هزيمة 1967، حسب المؤلف، إلى بروز انشقاقات وصراعات داخل التنظيم، إذ أدى النقاش
حول الحسم ما بين السلمية والجهادية، العلنية أو السرية... إلى صدام بين مكونات
المكتب التنفيذي، فحدثت انشقاقات قطرية وتطرفات (كما وقع في الفرعين الأردني
والسوري...)، لينتهي بانهيار المكتب التنفيذي سنة 1969.
الحقبة
الخامسة: إعادة بناء التنظيم العالمي
أدى
الإفراج عن المعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين سنة 1971، على إثر المصالحة مع الرئيس
أنور السادات، إلى سفر وهجرة قيادات الجماعة إلى الخارج من أجل إعادة هيكلة
التنظيم العالمي، من خلال أسلوبين: الأول، الارتباط بشبكة الاستثمارات المالية، والثاني
إعطاء نوع من المرونة والاستقلالية للفروع الوطنية، ولكن تحت سلطة المرشد العام،
والتي استمرت إلى غاية 1982. وكان مصطفى مشهور الأب الروحي للتنظيم خلال هذه
الفترة.
رغم
إفراد المؤلف لمحور خاص بتغلغل التنظيم الإخواني في قطر، ولمحور آخر خاص بالمغرب،
إلا أنه يمكن أن نعتبر هذه الحقبة هي التي ستعرف وصول قيادات التنظيم إلى دولة
قطر، وارتباطاتها بالعائلة المالكة آنذاك، وولوجها إلى مراكز صناعة القرار السياسي،
وأيضا الهيمنة على مجال التعليم، وأغلب قيادات التنظيم إما مصريون هربوا من أنور
السادات، أو سوريون هربوا من النظام البعثي لحافظ الأسد.
كما
أنها نفس الفترة، التي عرفت الاتصالات، حسب المؤلف، بين التونسي راشد الغنوشي ضابط
الاتصال بالتنظيم، بزعيم الجماعة الإسلامية المغربية عبد الكريم مطيع، والاجتماع
الذي تم بين الرجلين في السعودية مع طرف ثالث، هو مصطفى الطلحان، مسؤول جماعة الإخوان
المسلمين عن منطقة شمال إفريقيا، أي بداية العمل على إنشاء فرع التنظيم داخل
المغرب مع "بقايا" الجماعة الإسلامية، بعد هروب مؤسسها إثر تورطه في
اغتيال القيادي الاتحادي عمر بن جلون.
الحقبة
السادسة: خطة التمكين
وهي
فترة امتدت من الثمانينيات إلى غاية سنة 2001، حيث عرف العالم خلالها عدة تحولات
ومشاكل داخلية وطنية، إذ خلالها كان سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي،
وغزو الكويت من طرف العراق، ووصول مرشد عام جديد هو مأمون الهضيبي، الذي حل محل مصطفى
مشهور... كلها عوامل أدت بالتنظيم العالمي إلى الدخول في مراجعات ونقاشات سياسية
وفقهية، ترجم عبر اجتماع في إسطنبول سنة 1991، بحضور 13 فرعا تنظيميا لتقييم الوضع
ووضع خطة جديدة، والتي سترتكز على إعادة
التنظيم العالمي بغية إقامة دول إسلامية في أفق دولة الخلافة.
كما
عرفت هذه الحقبة اعتقال خيرت الشاطر، والعثور على وثيقة تسمى "خطة
التمكين"، وإعلاميا بـ"السلسبيل"، تتحدث عن سبل التغلغل داخل
المؤسسات المدنية والسياسية والمهنية والقطاعات الحيوية في المجتمع، وترتكز على
ثلاثة محاور أساسية: الاحتواء (عبر توظيف أجهزة النظام لتحقيق أهداف الجماعة)،
التعايش (بالعمل على التأثير على الواقع المحيط بما يجعل النظام حريصا على استمرار
تواجد الجماعة)، وأخيرا التحييد (عبر إشعار النظام بأن الجماعة لا تشكل خطرا
عليه)، وكل ذلك مع بناء أجهزة الجماعة: التنظيم الخاص، التنظيم العسكري، الجهاز التربوي،
الجهاز الإعلامي، والمؤسسات الاقتصادية.
كما
عرفت هذه الحقبة إعادة هيكلة التنظيم الدولي من خلال مجلس الشورى ومكتب الإرشاد
العامين: الأول مكون فقط من الأفراد المحليين، أما الثاني، فيضم ثلثي أعضاء من بلد
المرشد (مصر)، يتمتع كل تنظيم محلي بالاستقلالية في إدارته وإرادته وقراراته عن
بقية الفروع، نظرا لظروف وتحديات كل فرع، والإطار القانوني والسياسي لكل دولة،
ويبقى لمكتب الإرشاد العام التدخل فقط في حالة وجود تنازع أو اختلاف إقليمي، فيقدم
في أبعد تقدير على توصيات وليس قرارات.
الحقبة
السابعة: الدعم الخارجي/الأمريكي
يعتبر
المؤلف أن أحداث 2001، التي تم فيها الهجوم الإرهابي على برجي التجارة العالمية
بنيويورك، كانت إيجابية بالنسبة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، فمراكز التفكير
ولوبيات الضغط المتحكمة في القرار الأمريكي فرضت على الإدارة الأمريكية التعامل مع
الإخوان المسلمين كبديل عن الأنظمة السلطوية في البلدان العربية، كما أنهم هم
وحدهم القادرون على مواجهة الجماعات الإرهابية، وهي القناعة التي تمت ترجمتها من
خلال الدورات التدريبية لعناصر التنظيم من قبل منظمات وهيئات أمريكية، والاتصالات
والزيارات، التي تمت في تلك الفترة.
الحقبة
الثامنة: ربيع عربي مقابل خريف إخواني
يقف
المؤلف كثيرا عند تجربة الإخوان المسلمين في مصر، ويحصر أسباب فشلها بشكل دقيق،
وأهمها هي "حرق المراحل" بعدم تبني آلية فقه "التدرج"،
والانطلاق بسرعة فائقة من أجل "أخونة الدولة"، وأيضا اشتغال الجماعة في
إدارة الموقف السياسي يوما بيوم، أي تغليب ما هو تكتيكي على ما هو استراتيجي، والعجز
عن تحديد الهدف الكبير والأهداف المرحلية. وأخيرا أدى سوء إدارة الإخوان إلى حالة
استقطاب شديد في وسط المجتمع المصري.
وهو
ما أدى إلى انهيار التنظيم مؤسساتيا، وأصبح تعبير "دولة الخلافة"، أو كلمة
"إخواني"، تفزع المجتمع المصري.
الحقبة
التاسعة: ما بعد الإسلام السياسي... أفق مفتوح
أدت
تحولات دولية، وعلى رأسها وصول دونالد ترامب إلى كرسي البيت الأبيض، بالإضافة إلى فشل
الإخوان المسلمين في مصر، بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وخاصة في أوروبا،
(أدت به) إلى التفكك، ومن تجلياته انفصال الاتحاد العالمي للمسلمين بأوروبا عن
التنظيم الإخواني، وأيضا الفرع الفرنسي... وذلك على إثر تهديد الرئيس الأمريكي بجعل
الإخوان المسلمين منظمة إرهابية. ورغم الحديث عن كون الانفصال هو شكلي، لكن يبقى
امتدادا عضويا، وأنه مجرد تكتيك مرحلي للعودة مستقبلا، ولكن يسجل المؤلف أن هناك
رجة كبيرة في التنظيم العالمي.
المؤشر
الثاني مرتبط ببعض المراجعات والتقييمات، التي قام بها التنظيم العالمي للإخوان
المسلمين، ويطرح المؤلف، في هذا السياق، وثيقة "تقييمات ما قبل الرؤية...
إطلالة على الماضي"، التي أصدرها مكتب الإرشاد المؤقت في ربيع 2017.
المؤشر
الثالث متعلق، حسب الكاتب، ببعض التجارب المعاصرة، التي تحدث عنها، وتتعلق بكل من
تركيا وتونس والمغرب، والتي سجل بشأنها أن النقاش العالمي والقطري يرتكز على فكرة
ما بعد الإسلاموية، من خلال دمج الدين بالمطالب، والحقوق والواجبات، والتخلي عن
فكرة احتكار الحقيقة الدينية، والتعددية والمساواة تحلان محل الأحادية والإقصائية،
والتاريخانية محل النصوص الثابتة، وتراجع الدولة لحساب الفرد وحرياته الفردية.
2-
التحديات:
يعتبر
المؤلف أن حالة الثبات التي تسيطر على المخيال الإخواني، هو أكبر تحدّ يواجه
التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، فهو يجعل من الجماعة تنظيما أقرب إلى صورة
طوباوية، حيث أفكار حسن البنا والعقلية القطبية (نسبة إلى سيد قطب)، لاتزال صالحة
حسب أعضاء الجماعة، في كل مكان وزمان، رغم التحولات والتطورات، التي عرفها العالم،
وعرفتها مصر طيلة أزيد من ثلاثة أرباع القرن، والاستناد إلى ابن تيمية دون الأخذ
بعين الاعتبار السياقات التاريخية، وهي الأفكار القائمة على:
•
رفض علمانية الدولة على اعتبار أن العقيدة هي الموحدة للحدود، وهي أرض لكل من لا أرض
له.
•
الولاء والبراء يؤدي بالتفكير في التنظيم لا إلى الإيمان، وفكرة المرشد أو الأمير
إلى الأمة / الخلافة.
•
الحاكمية لله وجاهلية المجتمع.
•
قيام دولة الخلافة بناء على "دستورنا القرآن، وأن الإسلام هو الحل".
ثالثا:
تفاعلات مع الكتاب
ختم
فرانسوا بورجا، وهو باحث فرنسي، كتابه حول "الإسلام السياسي.. صوت
الجنوب"، بالقول: "هناك مبدأ سياسي قديم، يرى أن الأنظمة تواجه، في كثير
من الأحيان، المعارضة التي تستحقها، وأن مخالفيها هم القوى السياسية التي تصنعها
بنفسها، وبناء على ذلك فقد يؤثر سلوك الأنظمة بطريقة مباشرة إلى حد كبير في سلوك
القوى السياسية، التي ستحل محلها حتما يوما ما"...
خلق
المؤلف إلياس العماري تشويشا ذهنيا على متتبع الحركات الإسلامية عبر العالم، لكل من
قرأ كتابه، وخاصة في الفصل الأخير من الكتاب المتعلق بـ"ما بعد الإسلام
السياسي"، والذي سعى، من خلاله، إلى بناء منظومة فكرية جديدة تمزج بين
الأطروحة الإسلامية مع العلمانية في إطار دولة مدنية.
في
هذا الإطار، نستحضر ما ذهب إليه أولفيي روا، في كتابه "عولمة الإسلام"،
الصادر سنة 2003، عن "ما بعد الإسلاموية وعجز الاستراتيجيا الجغرافية"، بخصوص
غياب علاقة قائمة بين الإخفاق وتراجع الأسلمة، ولكن الإخفاق ناتج عن فصل الدين عن
السياسة، وصعود نجم "المجتمع المدني"، بعد أن تقولبت الحركات الإسلامية
الكبرى في إطار وطني، ودخولها إلى اللعبة السياسية، واضطرارها لقبول التعددية والتقارب
مع الهيئات العلمانية، مما جعل البعد الإيديولوجي للإسلاموية يميل نحو الزوال، من
خلال مساهمته في تدبير الدولة الوطنية بمعناها الغربي، وعدم قدرتها على تشكيل
"مجتمع مدني إسلامي"، وحصر النزعة الإسلامية فقط في وضع المرأة والمسائل
الأخلاقية.
يقف
أولفيي روا على مجموعة من المؤشرات، التي تؤكد أن التحالفات والانسجام في المواقف ما
بين الإسلاميين والعلمانيين، تعود، بالأساس، إلى التغييرات في الواقع العالمي
والجيوستراتيجي، وليس بسبب المراجعات الفكرية، ويعطي كأمثلة على ذلك: عندما يتفق
اليمين المتطرف في أوروبا مع الإسلام الأصولي، في ما يتعلق بـ"الهمينة الأمريكية
والمؤامرة اليهودية"، أكثر من اتفاقه مع "صهيونية شارون"، التي
تقول بكون "الإسلام مشكلة" أو "لنطرد العرب"، ومثال آخر متعلق
بموقف أسقف أنغليكاني مع نائب عمالي حول الدفاع عن الحق في ارتداء الحجاب، أو
لانتقادهما لكتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية".
مسألة
أخرى، تطرق إليها الكاتب فرنسوا بوغا (مرجع سالف الذكر)، تتعلق بصناعة "خط
وهمي" يفصل بين الطيبين والأشرار، والديمقراطيين وغير الديمقراطيين،
والمتسامحين وغير المتسامحين، وبين الذين يقبلون بحقوق المرأة وحقوق الإنسان بشكل
عام وبين من يولي لها اهتماما بسيطا، وهو خلط غير سليم، باعتبار أن هذا الخط
الفاصل متعرج، ولا يعبر عن الخط الذي يفصل بين التيارات الإسلامية وباقي القوى
السياسية، وذلك لكون أن المناضل في الإسلام السياسي ليس بالضرورة يتحلى بنفس نوع
التسامح الذي يلوح به، كما أن المناهض للإسلام السياسي (مثال صدام حسين وحافظ
الأسد) ليس هو بالآخر ينتمي إلى المعسكر المفترض وهو المعسكر الديمقراطي، وأخيرا،
فإن تيار الإسلام السياسي لا يتطابق خطابه مع خطاب الإسلام الراديكالي، الذي يرفض
مفردات وقيم الديمقراطية، بل على العكس من ذلك، فهو يحتضن هذه المفردات والقيم،
ولكن بمفهوم ودلالات ومعاني جديدة في سياق تاريخي مختلف عن نشأتها وبلورتها.
في
سياق التفاعل أيضا مع أطروحة ما بعد الإسلام السياسي، يرى جيل كيبل في كتابه
"الجهاد: الطريق الوعرة للإسلام السياسي"، أنه في الانظمة السياسية التي
تبدي بطبيعتها منحى تنافسيا كاملا أو جزئيا، يكون الإسلاميون مرهونين بنتائج
الاقتراع، مما يفرض عليهم التحالف مع ائتلافات منافسة وحتى مناقضة لهم، مما يجبرهم
على تكييف إيديولوجيتهم وبرامجهم استجابة للوقائع المحلية، وللناخبين المتنوعين،
وللمصالح، ويضرب جيل كيبل مثال ذلك بما يقع في الأردن والكويت والمغرب، إذ لعب
النظام البرلماني دور قوة "معصرنة" للحركات الإسلامية، دفعها إلى إجراء
حوار وتنسيق مع الأحزاب العلمانية والمدنية.
إن
من شأن هذه العملية المعقدة والمركبة، أن تؤدي، حسب عدد من المفكرين، إلى جمع مشوق
بين الأسلمة والليبرالية، يؤدي إلى نموذج سياسي جديد، إذ يرى باحثان هما راي تاكيه
(أمريكي من أصل إيراني)، ونيكولاس غفوسديف (رئيس تحرير صحيفة ناشونال أنترست)، في
كتاب مشترك حول "نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره"، أن جمعا
مماثلا لا يؤدي إلى اعتماد تلقائي لمبادئ الحداثة والتنور، فهو سيسعى إلى الموازنة
بين توقير القيم الإسلامية ورغبة الفرد بالتعبير الذاتي، كما سيتقبل وضع حدود
للحريات الفردية والشخصية متناغمة مع مبدأ المحافظة على استقرار المجتمع...
خلاصات:
من
خلال ما سبق، فالحديث عن "ما بعد الإسلام السياسي"، كضرورة قدرية، وباللغة
الماركسية، نوع من "الحتمية التاريخية"، والتي بدأ النقاش حولها مع مطلع
القرن العشرين، وفي تناغم مع السياق المغربي يقتضي ثلاثة محددات:
أولا:
التحلي بالواقعية السياسية والاجتماعية، في ارتباط بالتحولات الدولية والإقليمية،
باعتبار أن المراجعات الفكرية مرتبطة بالواقع وغير مترفعة عنه، فاستقراء الوضع
والحالة وتفكيك بنيات المجتمع والدولة، يدفع الإسلام السياسي المغربي إلى المزيد
من الاعتدال والمدنية والحداثة.
ثانيا:
للمجتمع المدني دور في تسريع عجلة التاريخ، فبعد تراجع دور الأحزاب السياسية، طفا
على السطح دور الجمعيات والحركات الاجتماعية، مساهمة في النقاش العمومي والسياسي
حول الحريات الفردية وقضايا المرأة والمساواة، بل إنه، حاليا، أكبر القلاع المحصنة
لقيم ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ثالثا:
أفرزت انتخابات نونبر 2011، وانتخابات أكتوبر 2016، قوتين مؤسساتيتين وتيارين داخل
المجتمع، قوة انتخابية تتمثل في حزب العدالة والتنمية، وقوة سياسية تتمثل في حزب
الأصالة والمعاصرة، الأولى تتبنى مرجعية إسلامية محافظة، والثانية تتبنى مرجعية
حداثية وكونية حقوق الإنسان، ما يتطلب من الطرفين تذويب الجليد بينهما، وتحطيم
الحواجز النفسية، للدخول في حوار وطني يهدف إلى المصلحة الوطنية، وهو حوار سيدفع بإخوان
السيد سعد الدين العثماني للخروج من جبة "المرشد"، وإنهاك "التنظيم
الإخواني" داخل الحزب بشكل مؤسساتي وسياسي وانتخابي.
هذا
المحدد الثالث هو ما ختم به السيد إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة
والمعاصرة، في كتابه (موضوع المقال) "فتح قنوات الحوار بين مختلف الفرقاء
السياسيين، ولكن لابد أن يتم تحت سقف المصلحة الوطنية".
AZIZ
IDAMINE
تعليقات