الرجة الثورية العربية على ضوء نظريات الثورات والاحتجاجات لعبد الحي مودن
الرجة الثورية العربية على ضوء نظريات الثورات والاحتجاجات[1]
عبد الحي مودن
7ماي 2011
يعيش العالم العربي منذ 17 ديسمبر 2010، حالة استثنائية في التاريخ السياسي للمنطقة شهدت لحد الآن (بداية ماي 2011) سقوط رئيسي نظامين استبداديين عتيدين، وثورة مسلحة في ليبيا، وحركات احتجاجية واسعة في اليمن، وفي سوريا (منذ بضعة أيام) تسعى إلى الإطاحة برؤسائها، ومسيرات متواصلة في غيرها من الدول (كالمغرب) تطالب بتغييرات راديكالية غير مسبوقة في محتواها ولغتها. أسمي هذه الوضعية الرجة الثورية. ما يعطي أهمية إضافية لهذه الرجة هي أنها، وعلى عكس حالات التغيير السياسي في الماضي، ليست موجهة ضد عدو أجنبي، وأن مطالبها تتعدى الدعوة إلى تلبية الحاجات المادية للمواطنين إلى قضايا غير مادية مثل الحرية والكرامة ومحاربة الفساد، ثم إن محركها الأول والأساسي هو الشارع، المجتمع المدني، وليس الجيش أو الأحزاب المنظَّمة كما كان الأمر في حالات أو محاولات التغيير السابقة.
كيف نفهم ما يجري من أحداث تتعاقب بسرعة محيّرة، وقابلة لكي تسير مستقبلا في اتجاهات عديدة محتملة؟
إن مصدر المادة الأولى التي تغذي فضول الناس حول ما يحدث هي وسائل الإعلام، التي أصبحت اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، قادرة على مواكبة سرعة الأحداث بفضل الإعلام الاجتماعي (الأنترنيت، الفايسبوك، التوتير...) الذي تسمح به تكنولوجيا الاتصال الإليكتروني. لكن هذه الأحداث تشكل أيضا المادة الرئيسية لتخصصات أكاديمية ظلت منذ عقود، بل هي عدة قرون، تسعى لفهم ظواهر سياسية مماثلة لما يحدث اليوم. هذه التخصصات هي بالأساس العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي أيضا الآداب والفنون. ستقتصر هذه الورقة على بعضها فقط، وعلى رأسها علم الاجتماعي السياسي. ذلك أن هذا الأخير راكم معرفة غنية في معالجته للسؤال الذي نطرحه اليوم: لماذا يثور الناس ويحتجون؟ كيف يفعلون ذلك؟ ما هي مآلات الثورات والاحتجاجات؟
لا حاجة للتنبيه إلى أن هذه العملية تتطلب مشاريع بحث مطولة لا يسمح بها المجهود المخصص لهذه الورقة. كما أن الرجة الثورية القائمة الآن، لا زالت لم تستقر بعد، وأنه ونحن في خضمها، نعاين كل يوم أحداثا دائمة التقلب. كنا نتساءل منذ بضعة أسابيع: هل يتدخل الجيش في تونس لصالح النظام أم لصالح الشارع؟ هل يتخلى مبارك عن السلطة أم يتشبث بها؟ وماذا عن القذافي؟ وعلي صالح؟ هل يتدخل الغرب في الثورة الليبية أم لا؟ ونتساءل اليوم: هل سينتصر الثوار أم تتقسم ليبيا؟ هل يتمكن الأسد من إخماد الشارع؟ هل سيقدم الدستور المغربي المقبل تغييرات جذرية أم ترميمات إصلاحية شكلية؟
ولذلك، فإن المقاربات الأكاديمية تجد نفسها مطالبة ليس بتفسير ما يجري فحسب، بل هي مجبرة على قراءة مآلات الراهن، أي التنبؤ بالمستقبل. وبسبب السرعة التي تشهدها الأحداث، فإن مدى النجاح في توقع المستقبل أصبح يشكل لدى البعض معيارا أساسيا في تقييم المصداقية العلمية للأطروحات النظرية المتداولة ولمؤسسيها، كما أنها أصبحت أيضا موضوعا للتبارز بين معتنقي هذه الأطروحات، وبين المؤسسات الأكاديمية التي تتبناها. إلا أن التباهي بالقدرة على التنبؤ، أو الدعوة إلى التخلي عن أطروحات فشلت في ذلك، يعطي قيمة مبالغ فيها لهذا العنصر كمعيار لتقييم أطروحة ما. وإذا اقتصرنا على فترة ما بعد الحرب الثانية، وهي الفترة التي ترسخت فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية بتخصصاتها المتعددة المعاصرة في شعب دراسة ومراكز للأبحاث وفي جمعيات مهنية، فإننا نكتشف كما حدث مع سقوط الاتحاد السوفياتي، أكبر حدث النصف الثاني للقرن العشرين، أن التاريخ يحمل الكثير من المفاجآت. إن العلوم الاجتماعية والإنسانية ليست علوما بحثة، وهي ليست قادرة على أن تتحول إلى علوم دقيقة، بالرغم من الطموح المبالغ فيه لمؤسسي بعض مدارسها ونظرياتها كالسلوكية وكالفاعل العقلاني أو الماركسية قبلهما إلى إخضاع العلوم الاجتماعية لمعايير العلوم الطبيعية. وهو الأمر الذي لم يتحقق رغم الموارد المادية الكبيرة التي خصصت لهذا الغرض منذ الحرب العالمية الثانية في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
يجب إذن أن نركز على معايير أخرى غير التنبؤ لممارسة البحث الأكاديمي في قضايا السياسية ولتقييم نتائجه. ولعل أكثرها إقناعا بالنسبة لهذا النص هو مساهمة الكتابات الأكاديمية في تعميق فهمنا للسلوك البشري، وعقلنة النقاش العمومي حول قضاياه، وإضفاء المتعة المرتبطة بالاكتشاف التدريجي والمتواصل، والذي يبقى دائما ناقصا، لأسرار الفعل البشري. يمكن أن نضيف أيضا معيار مدى التأثير الذي يلعبه البحث الأكاديمي على الفعل السياسي، سواء على مستوى الدولة أو المجتمع. لكن هذا الموضوع، يتطلب إجراء مشاريع بحث مطولة.
لا يمثل العالم العربي الفضاء المثالي لفهم الثورات. بل إن هذه المنطقة شكلت بالنسبة للعلوم الاجتماعية الحديثة منذ بداياتها مصدرا لفهم قدرة الأنظمة وزعاماتها ومجتمعاتها على الاستمرارية، وعلى إعادة إنتاج النظام الاستبدادي القائم، وما اعتُبر أيضا الترسيخ التواصل للركود التاريخي. وظل العالم العربي لذلك يعتبر، وحتى نهاية 2010 متنافيا مع ممارسة الثورة. وبالرغم من الأحداث التي عاشتها المنطقة، كحروب التحرير التي انتهت بموجات الاستقلال وظهور الدول الوطنية العربية، والانقلابات التي أوصلت النخبة العسكرية للسلطة في عدد من البلدان، والثورة الإسلامية التي أطاحت بشاه إيران، جارة العرب المشارقة، فإنها لم تؤد إلى التخلي عن أطروحات الاستمرارية. بل استمرت الدراسات تركز على قدرة التسلط العربي على إعادة إنتاج نفسه بنجاح.
منذ نهاية الثمانينات، حدث تململ في السلطوية العربية التي شهدت إصلاحات تمت في سياق موجة الدَّمَقرطة التي تُعرف اليوم بالموجة الثالثة والتي بدأت بسقوط الأنظمة العسكرية في جنوب أوربا وامتدت إلى أمريكا اللاتينية، ثم إلى أوربا الشرقية[2]. في مناخ هذه الموجة قامت الأنظمة العربية في كل من المغرب والكويت والأردن ومصر و البحرين و الجزائر وقطر واليمن بإصلاحات شملت تبني التعددية الحزبية وتوسيع مجال حرية التعبير وتقليص الهيمنة المباشرة للدولة على الاقتصاد. اصطلح على تسمية هذه الإصلاحات بالليبرالية السياسية. [3] تجاذب في تقييم الليبرالية السياسية العربية مقتربان. أوّلاها قرأها من منطق أطروحة الانتقال، التي تعتبر أن التحولات السياسية تقع بشكل تدريجي وسلس وبدون الحاجة إلى ثورات، وهي الأطروحة التي كانت دعمتها نجاح حالات الانتقال الديمقراطي غير الثوري في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا. واعتبرت أن الليبرالية السياسية العربية تشكل مرحلة تنتقل منها السلطوية إلى الديمقراطية التي تتميز بالمشاركة الشعبية الواسعة وبفصل السلط. المقترب الثاني لم ينظر إلى الليبرالية السياسية باعتبارها مرحلة أولى تهيئ للانتقال للمرحلة الديمقراطية، بل فسرها كسلطوية جديدة توظف آليات الليبرالية السياسية لتجديد وتمديد هيمنة النخبة السياسية القائمة.[4] وبالرغم من أن الليبرالية السياسية ميّزَت عددا من الأنظمة العربية التي عرفت إصلاحات عن غيرها من الأنظمة التي ظلت ديكتاتوريات تقليدية، فإن أيا من الأنظمة الليبرالية لم تشهد انتقالا إلى الديمقراطية. وبقي مآل هذا الانتقال الديمقراطي المرتقب لدى المحللين الأكثر تفاؤلا معلقا بقرار شجاع يتبناه حاكم ما في نظام ما يتبنى الخيار العقلاني الذي يدفع في اتجاه دمقرطة "من أعلى" تحدث من موقع قوة الزعيم وليس تحت تأثير ضغوطات "من أسفل" لم تكن حتى نهاية 2010 تبدو حقيقة وشيكة.
حتى صباح يوم 17 ديسمبر 2010 إذن، كانت الأنظمة العربية السلطوية بنوعيها التقليدي والإصلاحي قادرة على إعادة إنتاج نفسها في أفق مسدود لا يسمح بانتقالها إلى أفق آخر، وكانت التيارات الراديكالية تبدو عاجزة عن تعبئة مجتمعية لصالح مشاريعها البديلة، و البدائل الأصولية مطوّقة من طرف الدولة بواسطة الزجر أو التلويح باستخدامه. إلا أن الرجة الثورية قلبت موازين القوى هاته أو زعزعتها وذلك عن طريق احتلال الحلبة السياسية من طرف شباب الإعلام الاجتماعي الثائر الذي اقتحم الفضاءات العمومية مطالبا ومُصرّا على إحداث تغيير جذري في الأنظمة السياسية. لم يكن هذا الاقتحام متوقعا لا في حجمه، ولا في راديكالية شعاراته ومواقفه، ولا في وسائل التعبئة التي وظفها، ولا في فعاليته التي تجلت في إسقاط حاكمَين وفي التهديد بإسقاط حكام آخرين، أو في حصوله على تنازلات بقبول إصلاحات غير مسبوقة ظلت مستبعدة من طرف أنظمة المنطقة.
كيف تساعد الأطروحات النظرية المتداولة في السوسيولوجيا السياسية على فهم هذه الرجة الثورية العربية؟
هناك مداخل عديدة، ومتنوعة، ومتضاربة تشكل مواضيع لخلافات عميقة بين أصحابها، يتطلب أي حكم فاصل عليها القيام بدراسات تطبيقية مطولة. سنكتفي هنا بإلقاء نظرة مختصرة عن عينة من أبرز الأطروحات التي اهتمت بالثورات وبالحركات الاحتجاجية في العالم، وبإبراز العناصر التي توضحها كل أطروحة عند قراءة الرجة الثورية العربية على ضوئها آملين إلى أن يساهم ذلك في الدفع بالبحث الجامعي ببلادنا لاهتمام ممنهج بهذه المواضيع.
لأبدأ أولا بالأطروحات التي اهتمت بالثورات وبالتحولات التي تقود للتغيير السياسي، وسأطلق عليها المدارس البنيوية. ثم أعرض الأطروحات التي اهتمت بالحركات الاحتجاجية.
الثورات في المدارس البنيوية:
تأتي الماركسية على رأس الأطروحات التي اهتمت بالثورات، ولعلها المدرسة الأكثر غزارة في ما كتب حول هذا الموضوع. على مستوى السوسيولوجيا السياسية، يعد كتابَي كل من بارينجتون مور[5] ثم تيدا شكوشبول[6] من المراجع الأكثر استعمالا وتداولا في المقررات التي تدرِّس الثورات والدراسات التي تنجز حولها. إن الثورة بالنسبة لمور هي نتاج الصراع بين الطبقات الذي صاحب عملية الانتقال من المجتمع الفلاحي التقليدي إلى المجتمع الصناعي الحديث، والذي عرفته في صيغها البرجوازية والفاشستية والشيوعية النماذج الستة التي درسها ابتداء بالثورة الإنجليزية وانتهاء بالثورة الصينية. ستتطلب أية قراءة للرجة العربية انطلاقا من الصراع الطبقي أن تأخذ بعين الاعتبار التحولات التي عرفتها الرأسمالية في المجتمعات غير المتقدمة، وفي ظل وسائل الإنتاج ما بعد الفلاحية وما بعد-الصناعية التي لا تشملها أطروحة مور، ثم في ظل العولمة المتعددة الأبعاد التي يشهدها العالم مؤخرا. لا يبدو أن طبقات الفلاحين والعمال تلعب دورا رائدا في الرجة الثورية العربية والتي تقودها الطبقة الوسطى الحضرية المتعلمة والمعولمة. ولا تركز هذه الفئة في شعاراتها على هويتها الطبقية بقدر ما تركز على انتمائها إلى شريحة عمرية، جيل الشباب، كما أن خاصية الأعداء المستهدفين من طرف الرجة ليست لهم خصائص طبقة اجتماعية بقدر ما يمثلون بالأساس حاشية الحاكم وأقربائه التي تستحوذ على الموارد الاقتصادية عن طريق احتكار السلطة السياسية. إن هناك حاجة لتجميع معطيات حول الموضوع، وهي المؤهلة لكي تحسم في تحديد الدور الذي يلعبه الصراع الطبقي حاليا. في انتظار ذلك، أتوقع أنه لا بد أن هناك دورا ما لعناصر ذات أبعاد طبقية في الرجة الحالية، لكني أستبعد أن يكون الصراع الطبقي في صيغته التقليدية على الأقل، العامل الحاسم في تفسير ما يجري.
درست سكوشبول الثورات الفرنسية والروسية والصينية، وأعادت النظر في أطروحة أستاذها مور عن طريق إبراز دور البعد الدولي في اندلاع الثورات. تقول سكوشبول بأن الثورات لا يصنعها فاعلون بل إنها تحدث لأسباب بنيوية ارتبطت في الحالات الثلاثة التي درستها بالأزمات السياسية التي واجهتها الأسر الحاكمة في كل دولة على حدة والتي كان سببها التنافس مع دول أجنبية. أدى هذا التنافس إلى تفكك الإدارات والمؤسسات واحتدام الصراع الطبقي مما سبب في النهاية في سقوط الدول الحاكمة. سنكون مطالبين انطلاقا من أطروحة سكوشبول بالبحث عن الأزمات السياسية التي يخلفها التنافس مع دول أجنبية في الحالة العربية والصراعات الطبقية الداخلية التي تولدت عنها. لقد برزت إشارات تعطي الأهمية للأزمة الاقتصادية التي تعرفها كل من تونس ومصر، وركزت على ارتفاع حجم البطالة واتساع التفاوت الطبقي. لكن العلاقة السببية بين الأزمة الاقتصادية والثورة العربية لا تبدو مقنعة الآن وذلك لكون أن الثورة لم تحدث (بعد؟) في مجتمعات تعرف أزمات مماثلة (كالمغرب والأردن مثلا)، أو حدثت في مصر بالرغم من الفوارق السوسيو-اقتصادية الواضحة بينها وبين تونس. لكن ذلك لا يمنع من البحث عن تفاصيل الأزمات ومخلفاتها على الصراعات السياسية الداخلية. إن البطالة تعد مدخلا مناسبا لمعالجة الرجة الثورة العربية من مقترب الأزمات الاجتماعية التي تشعل الصراع الطبقي. وفي نفس الوقت فإن الإمكانات الكبيرة التي تتوفر عليها بعض البلدان البترولية العربية (الجزائر والسعودية وسلطنة عمان) والتي وظفتها بسرعة فائقة مع بداية الرجة لامتصاص حدة الصراع، ونجاحها لحد الآن في ذلك، تعيد الاعتبار لأطروحة الريع كأداة للحفاظ على الاستقرار وعلى إعادة إنتاج السلطوية.
لم يهتم المرجع البنيوي الثاني وهي المدرسة التنموية بالثورات، بل إنها ركزت في صيغتها الأصلية والتي تشترك فيها مع المدرسة الوظيفية، على قدرة النظام الاجتماعي على أن يتأقلم مع عوامل التغيير، و على أن يتحمل الصراعات الدائمة وأن يحافظ على استمراريته وانسجامه. وليس هناك فرق يذكر في هذا المجال بين الأنظمة الحديثة والتقليدية، كلاهما يستجيب لتحديات التغيير الناجمة عن التحولات التكنولوجية بالأساس عن طريق وظيفة الاستيعاب، التي هي مكوِّن أساسي للنظام، والتي تضمن التوازن وبالتالي الاستمرارية. إن التنموية لا تنفي عوامل التغيير التي هي ظواهر عادية ودائمة، ولكنها لا تعتبرها ذات أهمية ما دام النظام يقدر دائما على استيعابها. أما بالنسبة للتحولات الكبرى على غرار الثورات والانقلابات الراديكالية فإن المدرسة التنموية اعتبرتها حالات غير سويِّة ولم توليها اهتماما نظريا خاصا. ومن هذا المنظور، فإن الرجة التي تعرفها كل من تونس ومصر تعتبر وضعية غير سوية، وأنها تشكل بالنسبة للأنظمة الأخرى امتحانا لمدى قدرتها على التأقلم مع التحولات الجديدة واستيعاب تحدياتها وفي نفس الوقت المحافظة على توازنها في ظل استقرار مؤسساتها. إن البنيوية التنموية لن تكون مفيدة في تفسير الثورات عندما تتحقق، ولا تفيد في تقييم حجم وقيمة قدرة الأنظمة القائمة على التأقلم إلا انطلاقا من معيار المحافظة على الاستقرار. وقد كان هذا النقص الذي عانت منه التنموية منذ ظهورها سببا رئيسيا في تراجعها كإطار نظري لتفسير التحولات السياسية التي كان يشهدها العالم الثالث بالخصوص منذ الستينيات.
عرفت المدرسة البنيوية لتحليل الثورة في صيغتيها الماركسية والتنموية تحولات مهمة. تمثل التحول بالنسبة للماركسية في التراجع الذي عرفه المد الثوري الذي كانت تتوقعه الماركسية، والذي دفع بالماركسيين الجدد للبحث عن الصيغ النظرية القادرة على تفسير الاستمرارية غير المتوقعة للرأسمالية ومؤسساتها السياسية. ولعل النموذج الأبرز في هذا الباب هي كتابات نيكوس بولانزاس الذي سعى لتفسير قدرة النظام الرأسمالي على تجدده في الأنظمة الديمقراطية من خلال أطروحة الاستقلالية النسبية للدولة، ثم فسر بعد ذلك سقوط ديكتاتوريات جنوب أوربا (البرتغال، اليونان وإسبانيا) انطلاقا من صراعات داخلية بدل مجهودا كبيرا بدون إقناع، حسب رأيي، لكي يؤكد طابعها الطبقي.[7] إلا أن الإسهامات الماركسية الأكثر غنى هي التي تُخرج اليوم الصراع الطبقي والأزمات الاقتصادية من نطاق حدود الدول الوطنية وتعالجه في ظل الرأسمالية المعولة، أو ما يسميه أنطونيو نيكري بالإمبراطورية.[8] هذه الاجتهادات تفيد في فهم التأثيرات القوية للعولمة على المفاهيم الماركسية الأصلية، و العوامل التي تسمح باستمرارية الرأسمالية المعولمة. وبالرغم من أن توقعات الماركسية المتجددة حول الآفاق الثورية للإمبراطورية لا تركز على بلدان الهوامش، فإن معالجة الثورات العربية من هذا المنظور قد تسمح باكتشاف عناصر جديدة.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واكتساح الرأسمالية والديمقراطية في أوربا الشرقية، عادت المدرسة التنموية للظهور في الساحة الأكاديمية. لم تقتصر التنموية في صيغتها الجديدة على تفسير الاستمرارية، بل قدمت اجتهادات في تحليل الثورات، والتي كانت أهمها ثورات أوربا الشرقية. يعتبر إنغلرهات نموذجا رائدا لهذا التوجه وهو يصر على وجود علاقة سببية بين التنمية السوسيو-اقتصادية وبين التحولات السياسية والتي تعتبر الديمقراطية مآلها النهائي كما تأكد في أوربا الشرقية. إلا أنه يميز أطروحته عن التنموية الأصلية في كون أن التنمية السوسيو-اقتصادية اليوم تعتبر تنمية ما بعد-صناعية، وأن هذا السياق يفرز ثقافة تعتمد على الحرية الفردية أكثر من ثقافة الهوية الجماعية الطبقية التي أفرزتها التنمية الصناعية والتي كانت ترتكز على الانضباط لمتطلبات العمل الجماعي الآلي الذي كانت تتطلبه شروط العمل في فضاءات العمل التقليدية والتي يعد المعمل نموذجها الأصلي.[9] إن أطروحة أنغلهارت تفيد في تفسير المحتوى الليبرالي للثورات السياسية التي عرفتها أوربا الشرقية كنتيجة لخصوصيات التنمية السوسيو-اقتصادية. تفيد أيضا في تأكيدها على العلاقة السببية بين التنمية والتحولات السياسية، بالرغم من أن إنغلهارت يؤكد على أن العلاقة تتطلب وقتا أطول وأنها تعرف تقلبات أكثر تعقيدا مما تحدث عنه السابقون. تفيد ثالثا في كون أنها تدخل في الحسبان بعض المتغيرات التي تؤثر على السرعة التي تتم بها هذه التحولات وتقلباتها والتي يكون على رأسهما دور العوامل الخارجية في الدفع باتجاه التغيير السياسي أو تعطيله. لكنها مع ذلك لا تجعل من عملية التغيير السياسي نفسها، ولا الكيفية التي يتحقق بها التغيير، أي القضايا التي تهمنا هنا بشكل أساسي، موضوعها المركزي. لكن و مع ذلك، فعند قراءة الرجة العربية من خلال منظور إنغلهارت نجد ما يساعد على تفسير المطالب ما بعد-المادية التي برزت بشكل واضح في شعارات الرجة العربية كالحرية والكرامة. كما أنها تثير الانتباه إلى وسائل الإنتاج ما بعد-الصناعية كسياق سوسيو-اقتصادي للمجتمعات الثائرة، وللشرائح الاجتماعية المتزعمة لحركات الاحتجاج الذين يشتغلون في قطاع الخدمات باختلاف روافده.
إلا أنه وبالرغم من التجدد الذي تعرفه المدرسة البنيوية بصيغتيها الماركسية والتنموية، فإنهما فقدتا منذ عقدين مركزهما المهيمن في السوسيولوجيا السياسية بصفة عامة وفي مجال التحول السياسي بصفة خاصة. أرجع السبب الرئيسي لهذا التراجع للشكل الذي اتخذته عملية الانتقال الديمقراطي منذ منتصف السبعينات، (أي الموجة الثالثة) والتي تشكل أهم التحولات السياسية التي عرفها العالم منذ سقوط النازية. اعتُمِدت في تفسير هذه الموجة أطروحات تخلت عن "البنيات" ووضعت "الفاعل" الفرد في قلب المعادلة. إن البنيات، تقول أطروحة "الانتقال الديمقراطي" أو "الانتقال" اختصارا، توفر السياق العام للأحداث، ولكنها تعجز عن تفسير المسارات التي تتخذها هذه الأحداث. ولذلك، فأصحاب أطروحة الانتقال تخلًّوا عن البنيات وركزوا على الحسابات العقلانية التي اتبعتها كل من النخب الحاكمة والنخب المعارضة، بجناحيها الراديكالي والمعتدل والتي أدت في النهاية إلى تبني انتقال من أنظمة عسكرية إلى أنظمة مدنية ديمقراطية بشكل سلمي.[10] وكانت نتيجة التوظيف الواسع لأطروحة الانتقال هي التخلي عن الاهتمام بالثورة كظاهرة سياسية وكإشكال نظري والاهتمام عوضها بمراحل الدَّمَقرطة غير الثورية، لخصت هذه الوضعية عبارة "أن صندوق الاقتراع هو كفن الثورات."[11]
في مرحلة لاحقة تعرضت أطروحة الانتقال لانتقادات مصدرها اقتصارها على تجارب أمريكا اللاتينية، وإهمالها لخصوصيات التحولات التي عاشتها أوربا الشرقية. ففي الوقت الذي عرفت فيها هذه الأخيرة تحولات سلمية، إلا أن الانتقال فيها لم يتم في شكل مفاوضات بين النخب، ولكنه كان نتيجة لمشاركة مجتمعية واسعة جعلتها أقرب للثورات. ولتمييزها عن الثورات التقليدية خاصة فيما يتعلق بطابعها السلمي سميت بالثورات المخملية[12] بداية في حالة تشيكوسلوفاكيا سنة 1989، لتعمم على التحولات التي شهدتها فيما بعد دول مثل بولونيا، هنغاريا وألمانيا الشرقية.
إن هناك عناصر تشابه بين الثورات المخملية وبين ثورتي تونس ومصر. فهي جميعها ثورات سريعة، تحمل مطالب ليبرالية، وذات طابع سلمي بالأساس حيث العنف الذي عرفته الدولتان العربيتان كان محدودا ومؤقتا وغير فعال. ولذلك فإن الثورات المخملية الأوربية تشكل مقتربا مفيدا في فهم الرجة العربية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التحاليل التي تابعت مراحل ما بعد ثورة المخمل، انتقدت الصبغة المهادنة لهذه الثورات، وتساهلها مع إرث النظام السابق، وشككت في قدرتها على إحداث التغييرات العميقة والتي يتطلبها القضاء على النظام الشمولي بل وقللت من أهمية منجزاتها وتشاءمت من مصيرها. وفي مقال كتبه قبيل وفاته إرنيست كلنر بحسرة عن تشيكوسلوفاكيا، بلده الأصلي،[13] اعتبر أن الثورات المخملية الإصلاحية لا تحدث قطيعة مع الماضي، ولذلك فإن ثمن المخمل في النهاية، هو الاستمرارية وليس التغيير المنشود.[14] وهذه كلها قضايا لا شك وأنها ستكون مفيدة في إغناء فهم طبيعة الثورات السلمية واحتمالات مآلاتها.
الرجة الثورية والسوسيولوجيا السياسية للاحتجاج
حققت السوسيولوجيا السياسية التي أنتجتها الجامعات الغربية تراكما معرفيا غنيا حول الاحتجاج في إطار الدراسات الكثيرة والبالغة التنوع التي أنجزت حول الحركات الاجتماعية الجديدة New Social Movements أو ما أصبح يعرف اختصارا ب NSM التي ظهرت في البلدان الديمقراطية بالأساس خاصة منذ التسعينيات. وتتميز NSM عن الحركات التقليدية كالأحزاب والنقابات في كونها وعلى عكس هذه الأخيرة لا تهدف إلى الوصول إلى مراكز السلطة بقدر ما تسعى للتأثير على القرارات لتحقيق مطالب قطاعية ذات طبيعة غير-مادية في معظمها. وشكلت النماذج الرئيسية لهذه الظاهرة الجديدة الحركات المطالبة بحقوق النساء والأقليات العرقية والجهوية والجنسية. لا يمكن الاستغناء عن هذه السوسيولوجيا عند معالجة الرجة الثورية العربية بحكم ما توفره من خبرات في البحث الميداني وتراكم نظري حول موضوع الاحتجاج. إلا أن توظيفها في فهم الرجة العربية يتطلب اعتبار سياقات تبلور هذه الأخيرة في ظل أنظمة سلطوية تنتمي للعالم الثالث، تمارس في معظمها لأول مرة تجربة الاحتجاج السلمي ورفع مطالب غير-مادية وشعارات راديكالية ذات حمولات ثورية. تواجه قراءة الرجة العربية على ضوء سوسيولوجيا الاحتجاج أيضا مشكلة التنوع الكبير لأطروحاتها، واختلاف بل وتضارب مقارباتها ونظرياتها، والصراعات المطولة بين ممارسيها، والتحولات السريعة التي تعرفها على ضوء الانتقادات والانتقادات المضادة التي يتزعمها رواد كل مقاربة على حدة. يضاف إلى ذلك كون أن الرجة العربية تعيش مرحلة مخاض عير مكتملة وتختلف خصائصها من دولة إلى أخرى، فهي قطعت شوط الإطاحة برؤساء نظامين، وتشهد مواجهة مسلحة في ثلاث دول، ومبادرات إصلاحية سلمية في أنظمة أخرى.
تقدم هذه الورقة النظريات الرائدة في معالجة الحركات الاحتجاجية ملخصة في ثلاثة مصطلحات: "تعبئة الموارد"، "الفرص السياسية" و "التأطير" framing أعرضها تباعا.[15]
نُشر النص المؤسس لنظرية "تعبئة الموارد" سنة 1977،[16] وظهرت كبديل أول على المقترب السائد في إطار النظرية التنموية التي اعتبرت الثورات والاحتجاجات سلوكات سياسية غير سوية أطلق عليها "نظرية الحرمان" (التي سبق تقديمها في هذا النص). هذه الأخيرة اعتبرت الاحتجاج نتيجة للإحساس بعدم الرضى وبالفشل في التأقلم مع واقع المجتمع الحديث. وقُدِّم الاحتجاج من هذا المنظور الذي كان واسع الانتشار طيلة الستينات في حقل السوسيولوجيا الأمريكية بالخصوص، كتعبير عن وضعية غير سوية من الناحية السوسيو-نفسية. أحيل كمرجع ممثل لنظرية الحرمان كتاب "لماذا يتمرد البشر" لمؤلفه تيد غير الذي صدر سنة 1970.[17]
لكن المعطيات الميدانية التي أفرزتها الحركات الاجتماعية التي شملت العالم الغربي خلال الستينيات في شكل معارضة الحروب والمطالبة بتوسيع حريات الأقليات السوداء في الولايات المتحدة بشكل خاص، كانت تتنافي مع أطروحات الحرمان. عوض ذلك أبرزت نظرية "تعبئة الموارد" الدور المركزي للفاعلين في الحركات الاجتماعية باعتبار أن لهم أهدافا يسعون لتحقيقها ويلجؤون في سبيل ذلك إلى توظيف وسائل غير تقليدية، والتي من بينها الاحتجاجات، وأن هذه الأشكال من التعبير السياسي تظهر خارج المؤسسات الرسمية التي تتمثل في الأحزاب والنقابات والبرلمانات. إن ما يفسر الاحتجاج في هذه الحالة ليس هو الوضع غير السوي، وليس هو الإحساس بالحرمان، ولكن وجود أفراد لهم هدف محدد يعملون من أجل تحقيقه على تعبئة الموارد المتوفرة من خارج القنوات العادية، ولذلك فقد اقتصر الاهتمام في معالجة هذا الموضوع على الأنظمة الديمقراطية التي توفر مناخ التعبير الحر من خارج تلك القنوات . وبما أن احتجاجات الحركات الاجتماعية الجديدة تعالج القضايا التي لم تتمكن القنوات الرسمية من معالجتها، فإنها لن تكون مركزية، ولا شاملة، ولن تكون بالتالي إلا قضايا الهامش.
إن تحليل الرجة العربية من منطلق "تعبئة الموارد" ستدعو إلى التركيز على الأهداف التي يضعها صانعوا الرجة لمشاريعهم عوض البحث في مدى إحساسهم بالحرمان والفشل، كما أنها ستثير أهمية الموارد غير التقليدية التي توظَّف في التعبئة من أجل التغيير والتي لا شك وأن الإعلام الاجتماعي سيكون أبرزها. ستبرز أيضا من هذا المنطلق الفاعلية الاستثنائية لهذا المورد الجديد في تجاوز الرقابات الأمنية التقليدية التي ظلت تمارسها الأنظمة السلطوية لتمنع بها المعارضة المجتمعية الواسعة.
في انتظار التجربة الميدانية لنظرية "تعبئة الموارد" على الرجة العربية، أشير إلى أن أبرز الانتقادات التي واجهتها اعترضت على مبالغتها في الأهمية التي توليها للفاعل على حساب البنيات. تزعم هذه الانتقادات أصحاب نظرية "الفرص السياسية" والذين أشاروا إلى أن الفاعل في غياب بنيات سياسية مواتية يعجز عن تعبئة موارده وبالتالي عن تحقيق أهدافه. إن لكل مجتمع موارده وفاعلوه، ولكن القدرة على الفعل والتأثير لا تظهر إلا عندما تتوفر الفرص السياسية التي تسمح بذلك. إن الفرص السياسية، وليس الفاعل والموارد، هي التي تخلق الحوافز لدى الفاعلين وتوقعاتهم بقدرتهم على النجاح وهذا ما يسمح بالقدرة على التعبئة وبالعمل المشترك الفعال، وبالتالي تؤدي إلى ظهور الحركات الاجتماعية وقدرتها على الفعل. وتُعرّف الفرص السياسية بتلك الأبعاد من المناخ السياسي التي توفر حوافز الانتصار أو تمنعها والتي تتمثل في المؤسسات السياسية، والثقافات والأزمات والتحالفات والتحولات السياسية.[18] لفهم الاحتجاجات من هذه الزاوية يتوجب البحث في التغيير الذي تعرفه بنيات الفرص السياسية ودورها في التحفيز على الفعل السياسي. ذلك سيعني بالنسبة للرجة العربية تحديد التحولات التي عرفتها وتعرفها البلدان العربية سوءا تعلق الأمر بمؤسساتها، وثقافاتها وأزماتها وتحالفات سياسييها والتحولات التي شهدتها قبل الرجة والتي قد تكون مهدت لها. وسيتعين علينا آنذاك السعي للإجابة على أسئلة من قبيل: ما هي الفرص السياسية الجديدة التي ظهرت في العالم العربي في 2010 أو قبلها والتي لم تظهر في السابق؟ ما هي طبيعة الأزمة المدمرة التي عجزت الأنظمة السلطوية عن تدبيرها اليوم على عكس الأزمات السابقة؟ أين يكمن عجز المؤسسات القائمة في مواجهة الرجة أو قدرتها على ذلك؟ ما هي أشكال التحالفات الجديدة التي برزت في صفوف المعارضة، وما هي العوامل المؤسساتية التي سهلت ذلك؟
تبرز من مواضيع هذه الأسئلة، أهمية المؤسسات والتي يظهر من خلال تجربتي تونس ومصر أن الجيش لعب الدور الحاسم فيهما. ودور الجيش ارتبط أيضا في تلك الدولتين بمنعه الاستعمال المكثف للعنف لسحق الثورة كما كان ذلك ممكنا في ظروف سياسية سابقة. إن تقييد قدرة النظام في ممارسة العنف يعتبر فرصة سياسية ساعدت على نجاح الثورة في تونس ومصر. كما أن الدور الذي لعبه الاستخلاف وويكيلكس في تعميق أزمة مشروعية النخبة الحاكمة تشكل هي أيضا مدخلا لتفسير الرجة الثورية من خلال أطروحة الفرص السياسية ودورها في إسقاط بعض الأنظمة دون غيرها. ولعل سقوط نظام بن علي شكل حافزا مهما لاندلاع الثورة المصرية وصمودها حتى إسقاط مبارك. كما أن التحالفات بين الشرائح المكونة للمعارضة الشبابية والتي مكنتها من تجاوز الانشقاقات التي كانت تعرفها المعارضات القديمة يعتبر موضوعا مهما في فهم الفرص الجديدة لتحقيق التغيير. نفس الأمر بالنسبة للفرص التي خلقتها الثقافة السياسية ما بعد-المادية والتي ركزت على أهداف سياسية كبرى كالحرية والكرامة والتي لم تكن المؤسسات السياسية القائمة مهيئة للاستجابة لها على خلاف المطالب المادية والقطاعية التي تعوَّد النظام السلطوي على تقنيات الاستجابة لها وإخمادها.
شهدت أطروحة "الفرص السياسية" فترات ازدهار أصبحت فيها الأطروحة الأكثر تداولا في السوسيولجيا السياسية للحركات الاحتجاجية منذ بداية الثمانينات. لكن ظهرت نقائصها هي الأخرى. أقوى مصدر للانتقادات التي وجهت لها كان مصدرها الأطروحة التي شككت في قوة "الفرص السياسية" كمتغير مستقل يفسر أسباب الاحتجاجات. إن هذه الفرص وما تخلفه من حوافز وتوقعات لا تشكل العامل الحاسم في اندلاع الاحتجاج بل العامل الحاسم هو عملية التأويل للأحداث وللإمكانيات المتوفرة وللمناسبات السياسية بشكل يخلق الإحساس بالقدرة على الفعل ويقوِّيه. ليست الفرص بحد ذاتها هي التي تؤدي إلى الفعل، ذلك أنها قابلة لتفسيرات متعددة ومتضاربة، ولكن ما يؤدي له هو التمكن من تأويل الفرص وإضفاء معاني عليها بشكل يدفع للقيام بفعل محدد. إن محرك الاحتجاج يكمن من هذا المقترب في القدرة على إعطاء معنى للأحداث بشكل يسمح بتعبئة المؤيدين وتوسيع دائرتهم ويضعف المناوئين وقدرتهم على صنع الفعل المتوخى. إنها لا تتعلق بالقدرة التنظيمية على التعبئة، كما تقول الأطروحة السابقة، بقدر ما هي مرتبطة بالتمكن من خلق المعاني المعبِّئة.[19]
على ضوء هذا المقترب الذي يعرف بأطروحة "التأطير" ستكون الرجّة الثورية العربية هي ثورة في المعاني وفي خلق معاني معبئة. إن الإطار المقدم من طرف الثوار يبدو أنه فعال في إحداث ما لم تنجح الإطارات السابقة من تحقيقه: خلق تعبئة واسعة وسريعة عن طريق تركيزه على القيم المشتركة بين فئة الشباب.
من هذا المنظور، ستكون الثورة التونسية حدثت لأن النشطاء تمكنوا من أي يضفوا معنى على حدث انتحار البوعزيزي بشكل جعل منه إطارا يعبئ المحايدين ويضعف المناوئين، ويعكس بشكل فعال الظلم الاجتماعي، والوضعية التراجيدية لعجز الفرد عن تغيير الظلم. وشكّل شعار "ارحل" الإطار الذي نجح في تحويل هذا العجز إلى فكرة معبئة قادت شرائح واسعة من الناس إلى الشارع حتى الرحيل الفعلي لابن علي. وستكون الثورة المصرية نجحت بسبب قدرة الإطار المعبئ لها على التأويل الدؤوب والمتواصل للتسلسل التي عرفته الأحداث منذ اندلاع الثورة في الجارة تونس بشكل تمكن من ترسيخ هدف الإطاحة بالنظام حتى النهاية. أضيف إلى أن النقاشات التي تعرفها أطروحة "التأطير" لا تقتصر على الجوانب المعرفية والعقلانية في عملية التأويل وإضفاء المعاني ولكنها تهم أيضا العواطف والمشاعر، والتي يكون لها الدور الأكبر في التعبئة الواسعة حسب آخر الأطروحات المتداولة في هذا المجال.[20] سيكون من المفيد تطبيق هذه الأفكار على مسارات الرجة الثورية العربية، خاصة وأن القنوات الفضائية، وعلى رأسها الجزيرة، تحولت منذ ديسمبر 2010 بالخصوص إلى آلة لإنتاج المعاني والمشاعر السياسية وتأويلها لما يخدم إسقاط أنظمة مستهدفة.
خلاصات:
سمحت هذه القراءة بإلقاء نظرة سريعة على التنوع الكبير في المجال النظري الأكاديمي المتعلق بالثورات والاحتجاجات، هذا في الوقت الذي لم نراكم في المغرب معطيات حول الموضوع ولم نقم بعد بتجريب هذه الأطروحات ميدانيا. وإذا كان سياق الاستمرارية المملة للسلطوية يعتبر أهم أسباب هذا النقص المعرفي لدينا، فإن الرجة الثورية تدعونا للاهتمام بالموضوع، خاصة وأن مناخ الحرية يوفر اليوم أكثر من أي وقت مضى إمكانية إنجاز الأبحاث الميدانية حول قضايا الثورات والاحتجاجات. يضاف إلى ذلك الحاجة المجتمعية الملموسة في فهم ما يجري. إلا أن الدخول المتأخر لهذا المجال يتطلب تجنب السعي إلى "اختراع العجلة" من جديد ويدعو إلى الاستفادة الخلاقة والنقدية من التراكم النظري الحاصل في هذا الميدان، ومن اجتهادات التقييم المتواصلة التي خضعت لها الأطروحات المتداولة. أشير بهذا الصدد مثلا إلى أن أطروحة الحرمان كتفسير للاحتجاج والتي ألاحظ أنها تحظى باهتمام خاص لدى طلبتي مردها الترجمة المتأخرة لكتاب "لماذا يتمرد البشر" لتيد غير، في الوقت الذي تعرضت فيه هذه الأطروحة لانتقادات قوية منذ السبعينات، وظهرت بدائل نظرية عديدة، كما رأينا، لا زالت في حاجة إلى الترجمة والتجريب الميداني. لا تخلو هذه الأطروحات جميعها من خلفيات إيديولوجية تتراوح ما بين التخوف من الثورات ومعارضة الاحتجاجات وتتبنى إما بشكل واضح أو ملتبس أفكارا تدافع عن الوضع القائم وتعارض الاحتجاجات، أو على العكس تتحمس لها وتؤيدها. هذه الوضعية لا تخلو منها أي أطروحة، وهي خلفية مفيدة لفهم سياقات إنتاج النظريات وأيضا لاتخاذ القرارات على مستوى الفعل بشأن الخيارات السياسية المطروحة. كما أن البحث الأكاديمي في هذا المجال يمكن أن يُسخَّر لإغناء الجدل السياسي حول هذه القضايا، وأن يساهم في عقلنة النقاشات العمومية حولها. لكن معايير التقييم الأكاديمي للأطروحات لا تقتصر على هذا الجانب رغم أهميته، بل تهم بالخصوص التماسك النظري للأطروحات المعتمدة، ودقة المعطيات وغناها. وهي العناصر التي توفر شروط المساهمة في تطوير البحث الجامعي على مستوى يتعدى الحدود الوطنية للحالات المدروسة ويتجاوز غايات الحسابات الإيديولوجية المؤقتة.
[1] ورقة أنجزت في إطار اللقاء الذي نظمته كلية الآداب بالرباط يوم الثلاثاء 15 مارس 2011.
[2] صامويل هانتغتون، الموجة الثالثة : التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، الكويت، دار سعاد الصباح، 1993
الترجمة العربية للنص الأصلي الذي صدر سنة 1991.
[3] Daniel Brumberg, “Liberalization versus Democracy,” Thomas Carothers and Marina Ottaway, eds. Uncharted Journey: Promoting Democracy in the Middle East, Washington, D.C.: Carnegie, 2004.
[4] Stephen J. King. The New Authoritarianism in the Middle East and North Africa, Indiana U Press, 2009, p. 4.
[5] بارنتجتون مور، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.
الترجمة العربية للنص الأصلي الذي نشر سنة 1966.
[6] Theda Skocpol. States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia, and China. Cambridge: Cambridge University Press, 1979.
[7] Nicos Poulantzas, La crise des dictatures: Portugal, Grèce, Espagne, Maspero: Seuil, 1975.
[8] مايكل هاردت و أنطونيو نيغري، الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة، الرياض: مكتبة العبيكان، 2002. الترجمة العربية للكتاب الأصلي الذي صدر سنة 2000، ثم بالخصوص كتابه
Michael Hardt and Antonio Negri. Multitude: War and Democracy in the Age of Empire. New York: The Penguin Press, 2004.
[9] Doald Inglehardt and Christian Welzel, Modernization, Cultural Change, and Democracy: The Human Development Sequence, Cambridge U Press, 2005, p.47,
[10] تعتبر النصوص المؤسسة لأطروحات الانتقال سلسلة الدراسات التي أنجزت في مركز وودرو وليسون من بينها:
Guillermo O’Donnell, Philippe C. Schmitter, and Laurence Whithead eds, Transitions from Authoritarian Rule: Comparative Perspectives, The Johns Hopkins University Press, 1986.
[11] جون فوران، "مستقبل الثورات، بيروت، دار الفارابي،
[12] تيموثي جارتون آش، "الثورة المخملية، هل هناك تغيير بلا عنف؟" مجلة وجهات نظر، العدد 125، أبريل 2010، صفحات 4-9.
[13] نحن نعرفه في المغرب أساسا كصاحب دراسته الانثروبولجية عن زاوية آيت أحنصال بعنوان أولياء الأطلس،
Ernest Gellner, Saints of the Atlas, Chicago: University of Chicago Press, 1969.
[14] Ernest Gellner: The Price of Velvet : Thomas Masaryk and Václav Havel. Czech Sociological Review, III, (1/1995), pp. 45-57.
[15] اعتمدت في هذه القراءة على مرجعيين هامين يلخصان الأطروحات النظرية المعروضة ويقدمان قراءات تقييمية ونقدية لها هما:
David A. Snow, Sarah A. Soule & Hanspeter Kriese eds. The Blackwell Companion to Social Movements, MA, USA: Blackwell Publishing, 2007.
Karl-Dieter Opp. Theories of Political Protest and Social Movements: A Multidisciplinary Introduction, Critique, and Synthesis, London: Routledge, 2009.
[16] J. D. McCarthy and M. N. Zald. “Resource Mobilization and Social Movements,” American Journal of Sociology, 82, 1977, pp. 121-1241.
[17] تيد روبرت غير، لماذا يتمرد البشر، ترجمة ونشر مركز الخليج للأبحاث، 2004
ترجمة إلى العربية للنص الأصلي الذي نشر سنة 1970..
[18] يعتبر النص المؤسسي لها هو:
P. K. Eisinger, “The Conditions of Protest Behavior in American Cities,” American Political Science Review, 67, 1973, pp. 11-28.
[19] النص المركزي في بداية هذه الأطروحة هو:
D. Snow, B. Rochford, S. Worden and R. Benford. “Frame Alignment Processes, Micromobilization and MoJeff Goodwin, James M. jasper, and Francesca Polletta eds. Passionate Politics: Emotions and Social
Movements, U of Chicago Press, 2001.
vement Participation,” American Sociological Review, 51, 1986, pp. 464-801.
[20] Jeff Goodwin, James M. jasper, and Francesca Polletta eds. Passionate Politics: Emotions and Social Movements, U of Chicago Press, 2001.
تعليقات