في دلالات انسحاب الجماعة
كثر اللغط حول انسحاب جماعة "العدل والإحسان" من دائرة المشاركين في المسيرات الأسبوعية لحركة 20 فبراير، من القول بأنها مؤامرة ضد حكومة بنكيران وصولا إلى أنها صفقة مع الحكومة الجديدة، ومنها من يقول أن "الجماعة" انتصرت في الاحتجاج وأن سقفها لم يعد يشفي غليلها وصولا إلى القول بأنها فشلت في توجيه والتأثير على الحركة، وغيرها من الاستبطان لقرار "الجماعة".
والمؤكد من جميع التصورات، أن "الجماعة" خلقت الحدث، وأكدت أنها رقم مهم في المعادلة السياسية بالمغرب، وهو المكسب المهم الذي ربحته "الجماعة" طيلة تواجدها في الحراك، حيث نقلت النقاش في الدوائر الضيقة وفي الصالونات السياسية حول قوتها الحقيقية، وخاصة التنظيمية، إلى مستوى الشارع وأضحت نقاشا عموميا بين الشباب وبين المهنيين والعمال وحتى الأطفال...
أما سؤال حول أسباب انسحاب "العدل والإحسان"؟ فكل الأجوبة لن تكون سوى تقديرات وتحليلات سطحية، لان السؤال الحقيقي هو ماذا سوف تربح "الجماعة" من الخروج وماذا سوف تخسر الدولة من بقاءها؟ أو السؤال بالمقلوب ماذا كانت سوف تخسر "الجماعة" وماذا سوف كانت ستربح الدولة في حالة بقاء "العدل والإحسان" في الشارع؟ هو السؤال الذي قد يقربنا من فهم قرارها دون الإقرار بالمعرفة الحقيقية وراء السبب المباشر للانسحاب. ولهذا السؤال شرعية وجوده للأسباب التالية:
§ أن البنية التنظيمية "للجماعة" لا تسمح للمتتبع من الخارج أن يقدر سلوكها أو استقراء لقراراتها، وأحيانا حتى من داخل الجماعة هناك صعوبة، لوجود جهازين داخلها منعزلين ويختلفان في تحليلاتهما وفي منطلقاتهما وحتى في قراءتهما للوضع وهما: الدائرة السياسية "للجماعة" ومجلس الإرشاد، ولكن يبقى الفصيل في القرار يعود للمرشد العام عبد السلام ياسين، الذي يجد أتباعه من أقواله وكتبه ككتاب للمناقب لا مراد لحكمه وحكمته؛
§ أن "الجماعة" لا تسعى للوصول للحكم انطلاقا من تغيير رأس هرم السلطة، بل لها إستراتيجيتها تقوم أساس على التربية وصلاح المجتمع المفتون، هذا الأخير بعد أن يهتدي للطريق المستقيم، هو من يقوم "بالقومة" المعهودة، وبالتالي الاحتجاجات لا تربي الناس على الدين والصلاح بقدر ما تقوم في نظر "الجماعة" بكسر جدار الخوف، كمرحلة أولية وبعدها يأتي العصيان المدني لتحقيق النظام الخلافي على المنهاج النبوي وعلى أنقاض الحكم العاض الذي ابتليت به الأمة؛
§ "الجماعة" لم تكن يوما ما ترى في التدبير الحكومي، آلية للتغيير، بل اعتبرته دائما وجها من أوجه الفساد والاستبداد، وبالتالي لابد من إصلاح رأس الحربة عوض ذيلها؛
§ منذ دخول الجماعة "للحراك" الشبابي وهي تعي أن مكوناته متناقضة ومنها ما هو ضد مشروعها السياسي والديني، وقبولها الانسجام مع هذه المكونات ليس بهدف تغيير خطها السياسي أو الركوب عليه بقدر ما كان برغماتيا، يسمح لكل طرف الاستفادة من الآخر، بدون الوصول للسماح لأحد أن يستغلها بشكل مفرط، أو أن تسمح لنفسها أن تهيمن على باقي الأطراف؛
§ تبني لاختيارات الملكية البرلمانية أو الجمهورية لم يكن يتناقض مع "الجماعة" الحالمة بمشروع الخلافة، مع وجود شعار المركزي وهو إسقاط الفساد والاستبداد، حيث هي واعية من كون الحسم في طبيعة النظام السياسي مرتبط أساسا بموازين القوى وبسياق موضوعي وبقدرة الفاعلين السياسيين على التفاوض من موقع القوة وليس من موقع الوهن؛
من خلال ما سبق لا يمكن لا أي طرف أن يدعي أن له كان تأثير على قرار "الجماعة"، سواء من خلال مؤتمره أو من خلال تصريحاته الصحفية، أو من خلال المواجهات الميدانية، ويعود ذلك لكونها قبلت دخول الحراك وفق أجندة محددة ودقيقة أملتها عليها الظرفية الإقليمية والوطنية، وحتى لا تخالف الموعد مع الشارع، وهي تعمد أساسا على لعب لعبة الإشارات، حيث يكون لنزولها للاحتجاج ومن خلال سلوك انضباط أفرادها والشعارات التي ترفعها مجرد إشارات إلى من يهمهم الأمر، دون أن تتحول حقيقة إلى قوة مطلبية أو احتجاجية، لان حسم مطالبها في الشارع يدخلها متاهات النقاش السياسي التي هي في غنى عنه، بل تعتمد أساس إستراتيجية الغموض، وقوة الإشارات والتلميحات القابلة لعدة قراءات وقراءات مضادة، وعدة تأويلات وتأويلات عكسية.
ف"الجماعة" في حراكها مع 20 فبراير مرت بثلاثة مراحل:
مرحلة إثبات الوجود: حيث كان لمشاركة الجماعة في المراحل الأولى أن تبث للرأي العام أنها موجودة ومعنية بقضايا الشعب في الديمقراطية والعدالة والاجتماعية والحرية، واعتمدت على تاكتيك المراقب والمتتبع والمشارك، دون الدخول في خندق التسيير والتدبير اليومي للحركة، ورغم تواجد مجموعة من شباب الجماعة في الجموع العام لشباب 20 فبراير، فقد كان شكليا فقط ويركز على الحضور الجسدي دون تسجيل أية مداخلة أو تعقيب قد يؤثر على سير توجهات الحركة؛
مرحلة الامتداد: وهي المرحلة التي ابتدأت مع مسيرة 24 أبريل الوطنية، والتي من خلالها فرضت وجودها في الشارع بقوة من خلال تسيير الشعارات وتنظيم المسيرات والتكلف باللوجيستيك، والنزول بشكل كبير على مستوى الامتداد الوطني، ومن خلال فرض تصوراتها وقراءتها للوضع والمشهد السياسي في الجموع العامة، وهو الشيء الذي أدخلها في صراعات مع الشباب اليساري والمستقل، ولكنها نجحت في فرض توجهها من خلال قوتها التنظيمية، ومن خلال انضباط عناصرها وفق أجندة محددة سلفا، في المقابل كان هناك تيه بين الأعضاء الآخرين من الحركة وبدأت الصراعات الحزبية تبرز بينهم، خاصة المتعلقة بالموقف من الدستور أو من خلال الانتخابات فيما بعد، استثمرتها "الجماعة" بتقوية حضورها وامتدادها بالتنسيق أحيانا مع هذا التيار أو ذاك، والابتعاد عن الصراعات المباشرة مع أي طرف أو مكون داخل حركة 20 فبراير؛
مرحلة قطف الثمار: وهي المرحلة الأخيرة، والتي بدأت مع ظهور أن المستفيد الرئيسي من الحراك هو "الجماعة"، في حين لم تستطع المكونات الأخرى، أن تستفيد من الوضع،الشيء الذي أدخل "الجماعة" في مواجهة مباشرة مع أعضاء الحركة وصل أحيانا إلي نعتهم بالكفر أو الارتزاق، ومن بين الثمار التي قطفتها، نجد فوز حزب "العدالة والتنمية" بالانتخابات الذي له دلالة أن المجتمع المغربي مجتمع مسلم وله قناعات بالمرجعية الدينية، وأن المشروع الإسلامي هو الحل والبديل الوحيد أمام تعثر البدائل الأخرى، كما أن تواجد الحزب الإسلامي في الحكومة يعد نعمة "للعدل والإحسان" في كلتا الحالتين: في حالة انتصار الحزب واستجابته لطموحات الشعب، فهو دليل على أن الخيار الإسلامي هو الخيار الأخير وبالتالي يجب استكمال المشروع الديني والوصول إلى أوجه من خلال تحقيق دولة الخلافة، وفي حالة فشل الحزب الإسلامي في الاستجابة لتطلعات الشعب، يبقى الخيار الأخير هو "الجماعة" باعتبارها أنها المكون الإسلامي الوحيد الذي لم يلطخ بوسخ "المخزن"، وهي معادلات تقوم على خيارات الأبيض أو الأسود، الإسلام أو الكفر، وأن البديل الحقيقي يتمثل في الجماعية.
كما أن من الثمار التي جنتها "الجماعة"، وتمثل بعثتها رسائل كثيرة، حول قوتها وحول قدرتها في تأطير الشارع وقدرتها على تغيير موازين القوى، ومن جهة أخرى كان لتواجد "الجماعة" طيلة عشرة أشهر من الاحتجاج تمرين لقواعدها وجس نبض مكوناتها على القدرة في التواجد في المحطات النضالية المقبلة، فأكيد أنها سجلت الكثير من نقط قوتها سوف تعمل على تطويرها وعلى مكامن الخلل في جهازها التنظيمي وستعمل على معالجتها.
إن انسحاب الجماعة اليوم ليس انسحاب أزليا، ولكنه تمهيدا لخرجات أخرى تكون أكثر قوة وأكثر زخما، فهي منزهة على أن تكون هناك جهة معينة ضغطت عليها أو تفاوضت أو أبرمت صفقة معها، لأنه يتناقض وحجمها ومشروعها.
تعليقات