لماذا لا أقاطع؟


لماذا لا أقاطع؟

لا أقاطع ليس بالضرورة سأصوت ب"نعم" كما أنه ليس بالضرورة سأصوت ب"لا".






أعتقد أن مدة خمسة أيام كافية لاتخاذ موقف سليم من المراجعة الدستور ومن الاستفتاء المقبل في فاتح يوليوز المقبل، وهو الموقف الذي انتظرت منه اتضاح الصورة من مشروع الدستور المقبل في خطاب يوم 17 يوينو ومن تصورات ومنهجية اشتغال الأحزاب السياسية وتعاطيها مع المقترح، الذي عاب عليها التسرع في اتخاذ الموقف، خاصة من قبل الأحزاب التي كانت تنعث بأنها مجرد دكاكين كاريكاتورية دورها في المشهد السياسي هو التصفيق والمباركة دون انتظار نضج الفكرة ووضحها وبلورتها بشكل جلي وخالي من أي غموض، وهو الفخ الذي سقطت فيه الأحزاب اليسارية التي تسمى أحزاب تنتمي للصف الديمقراطي التقدمي، إذ بمجرد انتهاء الخطاب بدأنا نسمع ردود الفعل.

عموما نحن أمام مشروع دستور لن يعرف النور إلا بعد الاستفتاء عليه وقول "الشعب" كلمته فيه، فرفضه سوف يفتح المغرب على عدة سيناريوهات لا يمكن التكهن بنتائجها، وقبوله يعني دخول المغرب لمغامرة جديدة ترمي على عاتقه التنزيل الدستوري على أرض الواقع بدأ بالانتخابات التشريعية وصولا إلى تحقيق مبادئ الحكامة في تدبير السياسات العمومية.

ونحن نعيش هذا المخاض حيث حملة الاستفتاء ما بين قابل للدستور وما بين مقاطع له، الموقف الأخير يحمل بين طياته عدة تناقضات تجعل من غير الممكن في اللحظة الراهنة و"الآن" قبوله لعدة أسباب أجملها في ملاحظات ثم في استنتاجات لعلها تومض بعض الدروب المظلمة في حلكة اللحظة حيث اختلط الحابل بالنابل، فلا يسار يساري ولا إسلامي إسلامي ولا يمين يميني، خاصة لما يختار اليسار الجذري والإسلامي الممانع منطق التحالف الموضوعي، ويختار بعض اليسار الإسلامي المعتدل حليفا تكتيكيا.

بداء بمنهجية اشتغال اللجنة المكلف بصياغة الدستور، والتي قدمنا سابقا في مقالات أخرى العديد من الانتقادات الموجهة لها، سواء فيما يتعلق بكيفية اشتغالها، أو كيفية تعاطيها مع مسألة التشاور، أو فيما يخص التعاقد السياسي الجديد الذي حدد خطاب 9 مارس أسسه، والتي كان مأمولا منها على الأقل، إذا لم تكن هي تتويج لحوار وطني، أن تكون منطلق لهذا الحوار، ولكن انغماس اللجنة في المقاربة الفنية والتقنية، جعلها تخطأ اللحظة مع التاريخ.

هذه الملاحظات لا تشفع في جعل بعض المكونات الحزبية ملائكة تتمتع بالطهرانية، بل هي الأخرى أخطأت لحظتها التاريخية، عوض أن تتحول مقراتها أو تنظيماتها فضاء للنقاش العمومي والحوار النقدي الجاد، فضلت أن تكون مجرد بنايات تحتضن الاجتماعات وطبع اللافتات والملصقات.

ويبدو ذلك جليا من خلال غياب الرؤية وضعف التخطيط الاستراتيجي الذين يجيبان على سؤال بسيط للغاية، ماذا نريد؟

وهو السؤال الذي يقتضي بالضرورة التفكير في أية تعاقدات اجتماعية ممكن بناءها، إذا كان التعاقد مع الدولة يقوم على بناء أسس الدولة الديمقراطية من خلال نظام حكم مفتوح وسلطة الشعب من خلال صناديق الاقتراع من باعمال الملكية برلمانية كنظام سياسي. إلا إنه تم تغيب التعاقد الأفقي بين جميع القوى والفاعلين حول أي مشروع مجتمعي نريد، ووفق أي أجندة محددة، هل نحن جميعا ضد النظام ونسعى لبناء دولة الخلافة أو لجمهورية، أو نحن مع شكل النظام وضد محتواه ومضمونه، الذي يقتضي إسقاط لنظام من داخل النظام، أو تغيير بنية وطبيعة الحكم دون القطع مع النسق العام.

حاولت بعض الأحزاب اليسارية وعلى الخصوص الاشتراكي الموحد والطليعية، أن تبين أن تحالفها استراتيجي قائم على مشترك بين التنظيمات، ولكن الواقع أكد أن ما يسمى تحالفات والتي فشلت في المحطات الانتخابية خاصة بيعقوب المنصور سنة 2007، بدت جلية في التعاطي مع اللجنة، فمنها من حضرت تعيين اللجنة وقاطعت أشغالها ومنها من قاطع حضور التعيين وشاركت في المشاورات، فأين التحالف هنا، بل وأكثر من ذلك مذكراتها تكاد تصل أحيانا لتناقض في بعض المقترحات أو التصورات بخصوص فصل السلط رغم أنها جميعا تتبنى شعار "الملكية البرلمانية"، مما يؤكد أنه ليس هناك ملكية برلمانية واحدة بل هناك ملكيات برلمانية.

بخصوص التشاور، هل معنى التشاور وإبداء الرأي، هو مطالبة المعني بتبني وقبول كافة المقترحات، أو البحث عن الحد الأدنى المشترك مع الباقي، إذا كان الطرح الأول هو المراد فيكفي أن يقدم للحزب الذي يريد تبني جميع مقترحاته، مذكرات باقي الأحزاب، ونلج لأول مرة في تاريخ المغرب عهد الحزب الوحيد، أما الطرح الثاني هو القائم على أسس الاختلاف والتعدد، حيث الكل بما فيه الملك واليسار والقوى المحافظة، تقدم بعضا من تنازلاتها للوصول بناء توافق مشترك بين الجميع القوى السياسية والمجتمعية.

ولابد أن نشير أن قبول جميع الأحزاب السياسية (باستثناء النهج الديمقراطي) للمثول أمام لجنة المانوني وتقديم مقترحاتها، بما فيها الاشتراكي الموحد، الذي اعترض بداية على المدة المخصصة له غير كافية، ليأتي بعد ذلك بلاغ المكتب السياسي، الذي رفض الجلوس مع الأحزاب الفاسدة مع العلم أنه جلس معها أثناء التعيين، وأخيرا بيان مجلسه الوطني الذي عبر عن رفض اللجنة التي لا تضم عضو يتبنى الملكية البرلمانية، وهي ملاحظات تؤكد تذبذب وتردد وعدم وضوح الرؤية للحزب، وهي معطى طبيعي لحزب يكتنف في داخله الكثير من التناقضات التي يحبل بها تصل أحيانا للتنافر مما يجعل أي خطوة للأمام بمثابة انفجار داخلي له، فيضطر بالبقاء ستاتيسكتي غير قادر على المبادرة وأخذ زمام الأمور بنفس ويرتمي أحيانا في أحضان أحزاب التحالف أو بنقد وجلد الآخر سواء الاتحاد الاشتراكي كان أو حزب إداري أخر. قلت جميع هذه الأحزاب بقبولها اللجنة فهي موافقة شكليا عليها وان اختلفت بعضها مع مضمونها، وبالتالي فمطلوب منها أن تقبل التنازل وأن تقبل قواعد اللعبة في حدها الأدنى.

وهناك من الأحزاب التي رفعت شعار المقاطعة مع العلم أنها صوتت ب"نعم" على دستور 1996، لماذا كانت داخل الاتحاد الاشتراكي، فهي قبلت بأقل من الدستور الحالي، فكيف يتناقض هذا الموقف مع الموقف السابق، قد يطرح الجواب بخصوص السياقات تختلف. أكيد وسياق المرحلة أكثر ملحاحية على المشاركة، لأنها أخلاقيا قبلت سابقا بالسلطة التأسيسية الفرعية، والسياق السابق كان مفتوح على جميع الاحتمالات، وكان احتمال موت الانتقال الديمقراطي في مهده هو الصائب، أما السياق الحالي فهو مفتوح على امتحان الذات والممارسة الميدانية في اتخاذ الموقف مع المشاركة أو المقاطعة كتجسيد لمنطق التراكمي الذي يتطور إلى الأمام، فالتاريخ لا يعود إلى الخلف، وهو منطق الطبيعة التي لا غنى عنه.

خلاصة القول هنا أن قبول اللجنة مبدئيا أو بشكل غير مباشر، يعني قبول المشاركة في الاستفتاء سواء بالإيجاب أو بالسلب.

موضوعة أخرى تتمثل في موضوع الدستور، سيكون جاحد من يقول بأن دور البرلمان لم يتعزز، جاحدا من يقول أنه لم يقع تطور على مستوى مؤسسة الوزير الأول، أعمى من لم يرى تكريس مجال الحريات والحقوق أعمى من لم يرى أسس الحكامة في تدبير السياسات العمومية.

ولكن المثار للجدل دائما في الحياة السياسية المغربية، يكمن في اختصاصات الملك، وهنا لابد من الإشارة أن المقارنة بين دستور 1996 ودستور 2011، هي مقارنة بليدة وسطحية من الناحية الدستورية، وغبية من الناحية السياسية، فالأول لا مجال للمقارنة، باعتبار أن الدستور الحالي بعيد شكلا ومضمونا عن الدستور السابق، شكلا في عدد المواد والأبواب، ومضمونا بتغيير بنية المؤسسات سواء رئاسة الحكومة أو البرلمان أو المحكمة الدستورية، أو الجمعات المحلية، أو الحريات وحتى على مستوى الديباجة، أما من الناحية السياسية، وهنا لابد من العودة لكتاب عبد الله العروي "من ديوان السياسة"، الذي كان يتحدث عن قرأت تأويلية جديدة لنصوص الدستور، لان مشكلة الدستور السابق هو من زاوية حرب التأويلات والتأويلات المضادة، فالفاعل القوي يهيمن ويفرض قراءته للنص على الفاعلين الآخرين، وبالتالي قرأت فصول الدستور من خلال تأويلات نصوص الفصول السابقة هي بمثابة شرعنة التأويلات السابقة وإسقاطها على الحالية، هو غباء سياسي يمضي شيك على بياض للمؤسسة الملكية قبل ولادة الدستور الحالي.

نخرج من زوبعة التأويلات، لنصل عمق الإشكال، والمتمثل في إمارة المؤمنين، وهنا لابد من الإشارة، لا يوجد من ادعى أنه ضد إمارة المؤمنين وليس هناك من طالب بالتصويت على إمارة المؤمنين، ولكن الجميع كان متفق على رفض توظيف وأدوار التي يمارسها الملك باسم إمارة المؤمنين، ذليل على ذلك أن هذا الفصل لم يثر حفظة أحد منذ الدستور الأول لسنة 1962، إلى غاية استعمال الملك هذا الفصل ضد البرلمانيين المنسحبين، حيث بدأ الاعتراض على توظيف هذا الفصل، من جهة أخرى، تكمن في قراءة بداية با حنين لهذا الفصل، والذي جعل منه دستور داخل الدستور، وجعل الملك في حقل فوق دستوري، méta-constitutionnelle، والذي يستطيع من خلال التحكم والتدخل في جميع الشؤون الدينية والدنيوية، خاصة وأنه داخل الفصل (19) توجد للملك صفات يتداخل فيها الزمني بالروحي، والداخلي بالخارجي، والمدني بالعسكري.

وهو النقاش الذي أثير بشكل جلي في الأوان الأخيرة وخاصة من قبل اليسار، وبالعودة للمقترحات المقدمة، فأغلبها كانت تنحو في اتجاه تعديله، وتنزيل أمير المؤمنين إلى الدستور، بمعنى إدخال الطائر المحلق داخل القفص، حتى لا يبقى يحلق بعيدا عن الجميع، باستثناء حزب واحد طالب بالحذف، ويهدف التعديل، على مستوى أقل أن يعرف المغاربة ويعرف الجميع ما هي الاختصاصات المخولة دستوريا للملك، فسابقا الملك ليست له فقط صاحيات مطلقا، بل صلاحيات غير محدود وغير معروفة وكامنة.

فقبل طرح النقاش الدستوري، مثلا وبالعودة لمذكرة الحزب الاشتراكي الموحد التي رفعها "للملك" سنة 2006، فكانت تتجه في هذا المسار، أي تعديله، وكان النقاش السائد ما بين إضافة فقرة في الفصل 19 تقول بأن الملك يمارس اختصاصات في ملا يتعارض مع الدستور ووفق أحكامه، وبين من كان يطالب بتفكيك الفصل إلى فصلين، ويكفي العودة هنا لحوار لمحمد مجاهد في أسبوعية الأيام في صيف 2006، أو إلى مذكرته، أول إلى الندوة التي عقدها بمقر وكالة المغرب العربي للأنباء.

فيجب أن لا ننسى التاريخ لأنه لا ينسانا.

الوضع الآن، يختلف وأعتقد أن مقترح الاتحاد الاشتراكي تمت الاستجابة إليه، فأمير المؤمنين أصبح يشرع فقط في المجال الديني بمقتضى ظهير، والملك كرئيس الدولة منفصل عنه يمارس مهام أخرى بمقتضى الدستور، بمعنى أخر لأول مرة سوف نلج عصر الملكية الدستورية، كنا في نظام ملكية تنفيذية ليست دستورية، والآن من خلال الاختصاصات يمكن القول أننا في ظل نظام ملكية شبه رئاسية أو شبه برلمانية ولكن دستورية.

لا يعني ذلك أننا من دعاة الملكية الشبه البرلمانية، بل مع ملكية دستورية تؤسس لنظام ملكية برلمانية، لهذا سأصوت ليس بالضرورة بنعم وليس بالضرورة بلا. ولكن سأصوت، لان معركة تنزيل الدستور لن تأتي بين عشية وضحاها، بل تقتضي سنوات أخرى، ومعارك أخرى من داخل المؤسسات، التي هي بدورها برلمان، وقد تكون وقد لا تكون حكومية، فالقبول بالإصلاح من الداخل يفترض القبول بالشكل الحالي، أما انتقاد المحتوى والمضمون شيء آخر، ولكن مقاطعة الشكل، فأخلاقيا وسياسيا، وحتى العقل والمنطق لا يقبل المشاركة في الانتخابات وخاصة البرلمانية، باعتبار أن المقاطعة هي مقاطعة النظام ككل، مقاطعة قواعد اللعبة المقبلة، مقاطعة أسس قبول العمل المشترك مع من قالوا لا أو قالوا نعم، وبالتالي لا يمكن رفض قواعد اللعبة ككل وفي نفس الوقت قبول جزء منها وخاصة في تدبيرها الإجرائي والكامن في الانتخابات، هذه الازدواجية والتناقض يسقط من مصداقية الحزب ومن موقعه، لهذا فتحية عالية "للنهج" الذي يقاطع فيقاطع.

كما سياسة الهروب إلى الأمام والاختباء وراء ما يسمى تحالف اليسار الديمقراطي، ففشل تكتيكيا واستراتيجيا وسياسيا، والعودة إليه اليوم من أجل العزاء يبقى مثل الضرب على الخد واللطم على الوجه.

فشارك ... فليس بالضرورة أن تقل "نعم" أو أن تقل "لا"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

الرجة الثورية العربية على ضوء نظريات الثورات والاحتجاجات لعبد الحي مودن