فضاءات دستور 2011
أثارت مجموعة من قيادات حزبية تنتمي للمعارضة البرلمانية، وحتى من داخل مكونات حكومة الأستاذ عبد الإله ابن كيران، نقاش دستور متعلق ببعض الفصول من الدستور الجديد، وخاصة فيما يتعلق بإشكالية التنصيب، وانعقاد المجلس الحكومي، وإحالة البرنامج الحكومي على المجلس الوزاري وغيرها من المواضيع.
ومن خلال تتبع لمسار هذا النقاش والسجال الدستوري، يمكن أن نسجل بعض الملاحظات قبل الخوض في المساهمة في من موقع المتتبع والمهتم:
أولا: أن هذا النقاش الذي حاول البعض تسفيهه أو تتفيه ( التفاهة)، لا يندرج في إطار الترف الفكري بقدر ما هو نقاش مهم وأساسي يجب أن تنخرط فيه كل مكونات المجتمع، وليس مجرد أمر يعني معارضة أو أغلبية معينة، بل هو أمر يعني كل الفرقاء السياسيين والمجتمعيين والأساتذة والباحثين والطلبة والمجتمع المدني وغيرهم، لأنه ببساطة أمر يهم وثيقة دستورية، هي بمثابة تعاقد اجتماعي وتعاقد سياسي، يجب أن نجيب جميعا عن فهمنا وإدراكنا ووعينا لها.
ثانيا: هذا التعاقد هو يطرح علينا أسئلة أكثر منها أجوبة، فهو يطرح سؤال عن دستور فصل السلط، وسؤال عن دستور صك الحقوق، وسؤال عن دستور كإستراتيجية عمومية أو كسياسية عمومية بعد أن تم تناول مجموعة من ميكانيزمات ومؤسسات الحكامة والديمقراطية التشاركية في فصول الوثيقة؛
ثالثا: أن الوثيقة الجديدة لا يجب أن ننظر إليها بمنظار الأمس، بمعنى لا يجب أن نجدد النقاشات والإشكالات الدستورية السابقة ونسقطها على فصول وأحكام الدستور الجديد، بل يجب أن نؤسس لنقاش جديد على الوثيقة، لا يقطع بشكل عدمي مع الماضي، ولكن يضع الماضي أمام الوثيقة وليس خلفها، فتكون هي المنطلق وليست هي النتيجة، ف"دستور جديد" ليس فقط هو "الوثيقة الجديدة" بل هو القانون الدستوري والفقه الدستوري والفضاء الدستور الجدد؛
رابعا: الدستور الجديد يتحدث عن مؤسسات إستراتيجية من الناحية السياسية والمؤسساتية لأول مرة في المغرب وهي على الخصوص المجلس الحكومي، ولدينا نقاش فقير جدا في المجال الدستوري عن المجلس الحكومي كمؤسسة دستورية، ومن جهة أخرى لأول مرة في التاريخ السياسي المغربي لدينا جهاز تنفيذي برأسين: رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ولم يعرف المغرب سجال دستوريا في هذا المجال من قبل، بل كان محصورا فقط في مجال تفويض السلطة التنظيمية من الملك إلى الوزير الأول؛
خامسا: الإشكال الدستوري في المغرب لا ينسلخ عن الإشكال القانوني بشكل عام في جانب أساسي وهو التطبيق، حيث أكدت باحثة في القانون الدستوري أن ثلثي الدستور لا يتم الاشتغال به، بل يتم العمل وفق ثلث فقط من الترسانة الدستورية بالإضافة إلى ذلك، كان في المغرب إشكال هو التأويل في جانب الطبق الأعلى من الدستور أو ما يسمى بالدستور الضمني أو الدستور فوق الدستور، والذي كان يجد خزانه الإيديولوجي سابقا في ثابت واحد وهو "أمير المؤمنين"، حيث كانت موازين القوى دائما تحسم لصالح المؤسسة الملكية لتأويل الفصل 19 وفق ما تقتضيه مصلحتها، أما اليوم تمت إضافة ثابت جديد، يمكن أن يؤسس لتأويلات جديد مبنية على مقاربته وهو "الخيار الديمقراطي"، فلم يعرف المغرب أو المغاربة نقاشا دستوريا مبني على ثابت من داخل الوثيقة الدستور أخر غير "أمير المؤمنين" مما سيفتح جدل أخر غير الجدل السابق؛
سادسا: حقيقة الأمر أننا منذ اعتماد دستور 2011، إلى غاية أن ينصب البرلمان الحكومة، نعيش مرحلة ارتباك ومخاض بفعل أننا داخل مرحلة انتقالية، والبعض يرى أنها طبيعية وعادية، ولكن يجب التنبيه ودق ناقوس الخطر أنها طبيعية، حقيقة، ولكن في نفس الوقت هي مرحلة مؤسسة، ومرحلة الميلاد الحقيقي لأي "دستور نريد"، وهي المرحلة التي يكتب فيها الدستور واقعيا ولا مجال للتراجع بعدها، والقرارات التي يصدرها المجلس الدستوري في تفسيره للأحكام الدستور تفرش الطريق للمحكمة الدستورية المقبلة، مما يتطلب اليقظة والتتبع والمواكبة أكثر من المراحل السابقة؛
إن هذه الملاحظات الستة السابقة تسمح بالقول أن الوثيقة الدستور الجديدة تضم ثلاثة فضاءات دستورية:
فضاء التطبيق: وهي مجموعة من أحكام المنصوص عليها صراحة وبوضوح ولا تحتاج لا للتأويل ولا للنقاش حولها، بل تقتضي تنفيذها بشكل مباشر، فمثلا لم نكن نحتاج إلى نقاش حول إحالة البرنامج الحكومي على المجلس الوزاري، لان الأمر بديهي من مقتضى الفصل 88 من الدستور الذي يتحدث عن البرنامج الحكومي، كمفردة أو مصطلح موجود فقط في هذا المجال ولا يحتاج إلى تأويلات بمقتضى الفصل 49، وتوسيع وتمطيط مفهوم السياسات الإستراتجية للدولة لتشمله، لان توسيع مجال صلاحيات الملك بشكل أوتوماتكي هو تضييق مجال صلاحيات المؤسسات الأخرى.
نفس الشأن بالنسبة لانعقاد اجتماعات المجلس الحكومي بعد تشكيل الحكومة، لان الأمر هنا ودائما من خلال الفصل 88 تعاقد رئيس الحكومة مع البرلمان وليس الحكومة ككل، والنص صريح، بعد تعيين الحكومة، يتقدم رئيسها إلى البرلمان، فالإجراء الثاني هو التنصيب وليس خلق أثر قانوني جديد من خلال اجتماعات "مجلس حكومي"، يمكن مستقبلا تداركه من خلال القانون التنظيمي للمجلس الحكومي.
وهو الأمر الذي أثير وحاول البعض أن يعيد النقاش حول التنصيب الثنائي أو الأحادي في الوثيقة الجديدة، إنطاقا من النقاشات التي أثيرت مع دستور 1992 ودستور 1996، في حين أن المعطي الثابت والصريح في الدستور الجديد، أننا أمام سلطتين: سلطة التعيين، وهي أحادية واختصاص كامل للملك، وسلطة التنصيب وهي الأخرى أحادية واختصاص كامل للبرلمان.
فضاء الأجرأة والتفعيل: وهي مجموعة من الأحكام الدستورية، التي نص عليها الدستور الجديد، ولكنها تحتاج لأثر تشريعي أو مبادرة مؤسسة معينة من أجل أجرأت الفصل على الواقع، ومرتبطة أساسا بالأحكام المتعلقة بمؤسسات الحكامة وبمجال الحريات وحقوق الانسان وغيرها، وهذا الفضاء هو الأوسع من بين الفضاءات الأخرى، ويقتضي من أجل تنزيلها بشكل سليم المقاربة التشاركية.
فضاء التأويل: وهي مجموعة من المقتضيات العامة والتي تتطلب نقاش هادئا للخوض فيها، كما أنها يجب أن تقطع مع تدبير لموازين القوى في المرحلة الحالية، لان الموازين ممكن أن تنقلب مستقبلا، ولكن الأساسي والجديد في دستور 2011، أن هذا الفضاء هو الأضيق من الفضاءات الأخرى، ويمكن الجزم أنه يعني مسألتين فقط: وهي اختصاصات الملك وسمو المعاهدات الدولة وبالضبط في الجانب المتعلق بالمرأة.
سابقا كان صلاحيات الملك غير محدود، حيث يمكن اللجوء للفصل 19 من أجل تمكين الملك من الصلاحيات التي يحتاجها لتعطيل كافة المؤسسات الأخرى بل وتعطيل الدستور نفسه، مما حدا بأحدهم أن قال أنه دستور داخل الدستور، يكفي تحريكه من أجل توقيف العمل بالدستور، فكانت الحركات المدنية والقوى الديمقراطية في مواجهة عمودية مع المؤسسة الملكية الذي يمتزج فيها جسد الملك مع جسد الأمير المفوض من الله، والتحق بهم مع بداية التسعينات الحركات الإسلامية التي أصبحت تنازع الملك في الصفة بذاتها.
ولكن مع دستور 2011، تزعزع وتفكك الفصل 19 ليس فقط من موقعه الذي حافظ عليه دائما داخل الهندسة الدستورية، بل في فلسفلته وحمولته، حيث أصبح فصلين وليس مجرد فصل واحد وانفصل "أمير المؤمنين" كمدبر للشأن الديني الفصل(41)، عن جسد الملك كرئيس للدولة يماس مهام منصوص عليها صراحة في الدستور( الفصل 42).
في مقابل هذا التحول في مضمون السلطة في المغرب، تم التأكيد على "الخيار الديمقراطي" من جهة وخيار "الدين الإسلامي" من جهة أخرى، وتحول معه الصراع العمودي مع المؤسسة الملكية إلى صراع أفقي بين أطراف وتيارات داخل الدولة والمجتمع، بين المحافظ الذي يبني تأويله لمقتضيات بعض الفصول الدستورية في صالح توسيع صلاحيات الملك، وبتحالف مع قوى إسلامية ترى ضرورة صون المرأة من داخل النص الديني، بإعلاء الهوية الوطنية والخصوصية على حساب سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وتيار تقدمي وحداثي وتحديثي، يرى في ضرورة تأويل المقتضيات من أجل توسيع صلاحيات رئيس الحكومة والبرلمان وبجعل سمو المرجعية الدولية والكونية على المرجعية والخصوصية الوطنية. وتحقيق المساواة الحقيقية بين المرأة والرجل.
ويمكن أن يتعزز هذا النقاش الفقهي حول صلاحيات الملك أكثر في حالة طرح موضوع عدم مصادقة مجلس النواب على البرنامج الحكومي.
من خلال ما سبق فمعركة التنزيل السليم والديمقراطي للدستور تقتضي ما يلي:
v أن النقاش حول صلاحيات الملك أو المجلس الوزاري أو المجلس الحكومي أو غيرها ليس شأنا بين المعارضة والأغلبية، بل هو شأن جميع المغاربة باعتباره بلورة لتعاقد مجتمعي جديد؛
v عدم الإفراط في التأويلانية، وجعل إشكالية التنزيل مرتبطة فقط بالتأويل الديمقراطي، ونفس الشيء عدم الإفراط في التجريدية النصية، وحسم إشكالية النص في تطبيق الدستور فقط بل يجب أن تشتغل الفضاءات بثلاثة معا التطبيق والاجرأة والتأويل؛
v الحذر من نقل قضايا تدخل في فضاء التطبيق إلى فضاء التأويل، أي من الفضاء الأول إلى الفضاء الثالث، لأنه يؤدي إلى قتل الوثيقة والى تعويم التنزيل الديمقراطي والسليم للدستور، ونفس الشيء نقل قضايا تدخل في فضاء التأويل إلى فضاء التطبيق، لأنه يؤدي إلى قتل ملكة اليقظة والتتبع والعقل، لصالح أن المرحلة حساسة ولا تستحق هذا النقاش؛
v جعل رهان المرحلة على تكريس خيار أن طبيعة النظام الدستوري المغربي كنظام شبه برلماني، تغلب عليه النفحة البرلمانية أكثر من الرئاسية، وليس كنظام شبه رئاسي تغلب عليه النفحة الرئاسية على البرلمانية.
تعليقات