موسم الهجرة إلى الماضي







موسم الهجرة إلى الماضي




لازال صوتها يرن في أذني، في ربيع سنة 2006، عندما كنا نناقش الإسلام السياسي، كانت رفيقة من حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، تقول هناك نوعان من الهجرة، هجرة مجالية من الجنوب إلى الشمال وهجرة زمانية من هذا العصر نحو أربعة عشر قرنا للوراء، بالمناسبة أتنمى لها الشفاء.

وفي هذه النوستالجيا أتذكر أيضا "الطيب صالح" الذي غادرنا مؤخرا إلى مثواه الأخير، بعد أن كتب روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" سنة 1966، يستعرض فحولة الرجل العربي في بلاد الغرب.



يعرف المغرب مثل باقي دول المنطقة مخاضا عسيرا، للانتقال نحو بناء أسسه الديمقراطية، حيث جميع السيناريوهات مفتوحة أمام أفق مليء بالمناطق الظلماء، في ظل موازيين قوى لم تحسم بعد، بين قوى محافظة في شقيها الأصولي السياسي و الديني، وبين قوى إصلاحية في طور بناء الذات، تجسدها مجموعة من الفعاليات المدنية والسياسية.

هذان التياران ليس وليدا الفترة الهشة والحساسة التي تمر منها المنطقة، بل ارتبط منذ بدايات تشكل الدولة الحديثة والمعاصرة، بل ونجد بعض أسسه في التراث الديني الإسلامي كما هو الشأن بالنسبة لبعض التجارب الدينية الأخرى مثل المسيحية والتي سمحت بانتصار للتيار العقلاني والوضعاني في صراع مرير مع الكنيسة، حيث نجد بعض الفرق مثل الخوارج والمعتزلة التي كانت تنادي بإعمال العقل عوض النقل، والتفكير في أسس مصلحة العامة قبل الخاصة والقطع مع فقهاء البلاط من أجل استقلالية العلماء عن السياسة وما يتبعها من خضوع وخنوع للحاكم السلطان.

وهو صراع تاريخي بين شبكة من التحالفات تحاول الحفاظ على الوضع القائم لاستفادتها من امتيازات اقتصادية وسياسية، وبين قوى أخرى تتطلع لبناء مشروعها على أنقاض المشروع القائم، فكان الصراع دمويا أحيانا حيث شهدنا إعدام أخر القساوسة بأمعاء أخر النبلاء، وحكي لنا أحيانا وطمس في الكثير عن القتل الجماعي وعن قطع الرؤوس التي أينعت في التاريخ الإسلامي.

وفي التجربة المغربية لما بعد الاستقلال، كان لامتداد الحركة المحافظة على مستويين، مستوى الأعيان والقواد، الذين كانت لهم تجربة مع المستعمر الفرنسي، ومع الإدارة المغربية التي بدأت تتشكل آنذاك حتى قال عنها أحد الباحثين الفرنسيين "الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، بتحالف استراتيجي بين شبكات من رجال الدولة على المستوى القروي مع القصر ضدا على الحركة الحضرية التي كانت تهيمن عليها قوى الحركة الوطنية، وقد اعتمد على نظام توزيع العقار كمحدد مباشر في الاستقطاب. هذه الشبكة من الإداريين وأصحاب المقالع الكبرى كانت محتمية باستقرار المغرب وعدم دخوله تجربة الديمقراطية، القائمة على التوزيع العادل للثروة، والقائمة على المساءلة والمحاسبة وعلى قاعدة من أين لك هذا؟ فكان الثمن أن تم نهب خيرات الوطن من قبل قلة على حساب تجويع عموم الشعب المغربي، وكان من نتائجها أن رفض الملك الراحل أي مساس بإعادة توزيع الأراضي سنة 1970، لان من شأنها أن تمس جوهر استقرار النظام الملكي حينها.

المستوى الثاني من الأصولية، والتي ارتبطت بالعودة إلى للدين باعتباره هو حل لمشاكل الحاضر انطلاقا من تفسير نوازل الماضي، في قراءة نصية وسطحية لأحكام الدين، فإذا كانت التجربة السلفية في بداياتها في عهد لحماية محتشمة، لوجود عدو أخطر، وهو "الفرنسيس"" و"النصراني" الذي غزا البلاد، فكانت المعركة في تحرير ثغور البلد، قبل التفكير في أفق بناء الدولة المقبلة.

ارتبط ظهور الحركة الإسلامية بالمغرب بعدة عوامل منها الخارجية والثورة الخمينية كما ارتبطت بعوامل ثقافية وأخرى سياسية ومنها عوامل اجتماعية/اقتصادية، أدت بهذا التيار يؤسس لظهور بأولى الاغتيالات لعريس الشهداء عمر بنجلون، وما تلاه من اقتحام لقلاع القوى الديمقراطية والتقدمية، بهدف إنزال مشروع "الإسلام دين ودولة".

ومن الإسلام السياسي من ارتمى في أحضان الدولة والتحالف معها ضد الشيطان الإصلاحي والتغيير "الملحد" و"الزنديق"، ومنها من تواطأ بشكل غير مباشر مع الدولة في سياسة الغموض ذو المنفعة المتبادلة، والتي يستقي كل منها من مغرفة الآخر ضدا على الديمقراطية التي تحمل بين قفاه اللائكية، فهما معا (سواء الدولة والإسلاميين الراديكاليين، أو الديمقراطية واللائكية لدى الإسلاميين) وجهان لعملة واحدة.

أمام الأصوليتين، أصولية المخزن، وأصول الإسلام السياسي، كان الجناح التقدمي بتوجهاته الإصلاحية والثورية يقاوم، ويصارع، منذ بداية ظهوره، مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مرورا بالحركة الماركسية اللينينة وصولا للمجتمع المدني الحامل لشعلة التغيير، نحو أفق أفضل، يكابد الاعتقال والاغتيال والإقصاء والتخوين.

في السنوات الأخيرة ارتبط الجناح الإصلاحي بمرجعيتين، مرجعية كونية وشمولية حقوق الإنسان غير القابلة للتجزيء ولا للتصريف، ومرجعية الديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميا، كمداخيل للتغيير، وكبدائل للثورة المؤودة، حيث يمكن للنظام الرأسمالي المتوحش أن يندحر ويندثر لما يختزن بداخله من تناقضات فناءه.

واليوم، ومع موجة موضة احتلال الفضاء العام، اختلطت الأوراق، فعدو الأمس أصبح حليف اليوم، وحليف الأمس أضحى عدو، فأصبح اليسار الجذري يحن للماضي، فبدأنا نعيش هجرة للماضي، بمقاييس مختلفة، فمنهم يحن للهجرة لمغرب الاستقلال والتفكير في بناء الدولة الوطنية، من أصولها بالاعتماد على لجنة تأسيسية منتخبة، ومنهم من يحن إلى العودة إلى الظهير البربري سنة 1930 حتى نتمكن من إعادة قراءة الحدث من زاوية أخرى، وأخر يمدد الزمن لقرون لنصل إلى سنوات نجلس على الحصير لنقل قرفصاء الرسول، وتسبيحه، ونجسد العدل في عمر الذي اشتكت المرأة له فأنصفها في حدود بيع نفسها بمعيار قنطار ذهب، وأخر يجسد في إنصاف رجل كان يقسم ثمرة مع زوجته فيذهب للجهاد في سبيل الله فتبقى هي جائعة إلى أن يعود إليها بالغنائم.

ما بين هذا وذاك هناك هجرة لماضي، وكأننا لم نتقدم خطوة "للأمام" أو حتى ما بعد ما حققه التلاميذ في 23" مارس"، أو لم تستطع "القوات الشعبية" أن تفتح ولو جزء من الهامش الديمقراطي.

لا يمكن أن نعود للوراء، لان عقارب الساعة إما أن تتوقف أو تتقدم للأمام، فلا مجال للتراجع، فمن يقبل بالديمقراطية فمرحبا، ومن اختار العدمية كتحالف موضوعي مع الرجعية والاصولية المخزنية، فذاك اختياره، ومن أراد أن يسير في دروب الإصلاح فالطريق شاق وطويل، فمسيرة الألف "ميل تبدأ بخطوة"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين