المسخ السياسي



المسخ السياسي



يحيلني دائما مصطلح "المسخ" لرائعة الأديب الكبير "فرانز كافكا" التي تحمل نفس العنوان، والتي يحاول من خلالها الحديث عن نظرية العبث التي يمكن أن تهدم كل شيء في طبيعة النظام، التي تتميز بنوع البيروقراطية القاتلة، القادرة على مسخ الجسد الإنساني رغم بقاء روحه وفية لمنطلقاته، الفكرية والسياسية والاجتماعية، ولكن يبقى في نهاية القصة ومن أجل أن تدب الحياة في الأسرة وتستطيع الأخت "ريتا" الزواج بعد أن انتبه الأب في الأخير أنها وصلت لعمر الزهور واستمرار العائلة ، أن يموت "جوريجور" بطل الرواية والذي تعرض للتحول، بمعنى عودة النظام إلى أصوله، وعودة قواعد اللعبة من جديد حتى يتمكن التاريخ أن يسير في منحاه الطبيعي والعادي دون أية انزلاقات بعد لحظات يوم من الانحراف والانزلاق.

العبث أو الفوضى كان دائما يحضر في لحظات، تعيد الأمور إلى نصابها وتحاول إعادة خلط الأوراق، من أجل بناء التعاقدات وقواعد لعبة من جديد نستطيع من خلال بناء المشترك بين الجميع، والمشترك في هذه اللحظة يكمن في بناء الدولة الوطنية ودولة المؤسسات العقلانية بعيدة كل البعد عن مجال القداسة والشخصنة، فهو نظام ديمقراطي يتسع رحابه لكل الآراء ولكل القوى الفاعلة من أجل السير بالمجتمع نحو الكرامة ونحو الرفاهية.

لم يكتب التاريخ يوما ما أن الفوضى استمرت أبدية إلى ما لا نهاية، فكانت هي الأصل وكان النظام هو الاستثناء، بل على العكس يكون التنظيم والتفكير الجدي والتناطح النظري والعصف الذهني في مجال الديمقراطية وكرامة الإنسان هو المحدد الرئيسي، في حين العبث كان ولازال مجرد هنيهة تابعة ومكلمة لماهية قوانين الطبيعة.

بالعودة إلى الواقع المعاش، والذي اتسم بشذرات معينة من تاريخ المغرب، بنوع من التمرد على القوانين والتماطل على الفضاء العمومي من أجل اختراقه، حقا مشروعا، كما أنه لم يكن وليدة سياقات خاصة بقدر ما كان تراكم لعدة تحولات اجتماعية وصراع مرير حول بينة السلطة في المغرب، نجدها مع أحداث 23 مارس 1965، ونجدها مع أحداث 1973، 1981، 1984، 1991، 2005، 1007، 2008، 2010، وأخرها 20 فبراير 2011. هذه الأخيرة التي هي موضوع كتابتنا، استطاعت من خلال تحطيم أصنام الدولة ومعابد السلطة، ولأول مرة أن تشكل نوع من تحرير مجال الفضاء العمومي بمفهومه الهابرماسي، لتشكل لحظة انطلاقة جديدة في التاريخ الراهن للدولة.

مع هذه الدينامية الجديدة، والتي نسميها بالفوضى لا بمعناها الخلاق ولا بمعناها المنظمة، بقدر ما هي تعبير عن تحول ومسخ متمرد على سيرورة وصيرورة الفساد والاستبداد، الذي طال الأفراد والمؤسسات، مسخ استطاع أن يقلب ويخلط الأوراق، التي وضعت منذ 2003 وعرفت ترجمتها بشكل واضح سنة 2007، التي كان رهانها أساسا في قتل المؤسسات الوسيطة، باعتبارها سبب الأزمة وسبب الفساد، بتصدير المسؤولية، حتى لا تبقى الدولة هي المسؤولة أولا وقبل كل شيء عنها.

المتحول سواء في رواية "كافكا"، محاط بحب الأخت والأم وتتبع الأب له بل الأكثر من ذلك هناك موظف الإدارة الذي زار "جوريجور" لسؤال عن تغيبه في العمل، وهناك الجيران الذي كانوا يتابعون الضجيج في المنزل، واحتياطات العائلة والبطل أيضا حتى لا يكتشف أمرهم لهم بدعوى "الفضيحة"، كلها عناصر لا تبتعد عن الحالة المغربية، ف 20 فبراير، لا يعيش لوحده منعزل عن العالم في جزيرة محاطة بأسياج تحميه من الاختراق أو تحميه من تحمل المسؤولية أو تحميه من النقد والمتابعة، بل هو جزء من الكل، ولكل موقفه حسب موقعه.

الدولة، لم يستطع أن تجيب بشكل واضح وصريح عن عدم التحاق بالشباب بالعمل السياسي، لم تستطيع أن تفرز ميكانيزمات إدماجهم وإشراكهم بشكل يجعلهم منتجي مشاريع وأفكار لا فقط منتجي الصراخ والشعارات من شدة ألم الفساد، آليات السلطوية الجديدة بقيت منخورة في أحشاء الدولة، وفي سلوكها من الحملات حول الدستور، تسيد الرأي الواحد لم يكن بالضرورة ضروريا إذا كانت واثقة من نتائج الاستفتاء. بل استطاعت أن تفرض منطقها من قتل الأحزاب السياسية بأن حولت حملة استفتاء حول شكل الدولة إلى حملة انتخابية سابقة لأوانها، فبدأ الصراع أفقيا بين تنظيمات سياسية ونقابية ولم يعد بين الدولة والمجتمع، فانتصرت لأنها تريد بالفوضى الظرفية أن تتحول إلى فوضى منظمة ودائمة، لأنها تستفيد من هذا الوضع أكثر من غيرها.

الأحزاب السياسية سواء امتزج فيها الحب بالحيطة والحذر والارتياب بل وأحيانا الكره لحركة 20 فبراير، ولكنها جميعها ما بين المتعاطفة وبين المتشفية بقيت متفرجة على رؤيتها وهي تتأوه من فرط التعذيب والمعاناة التي تنخر جسدها لحظة بعد لحظة.

أما الجيران فلا زالوا ينتظرون ماذا سوف يسفر عنه هذا لمسخ، وإلى مدى ممكن فهمه والتعاطي معه.

فرانز كافكا اضطر لقتل المسخ بطل الرواية بعد أن أدى مهمته، حتى يكتب مرة أخرى، وحتى تستطيع العائلة أن تستمر وأن تبدأ من جديد معارك الحياة التي كانت تتخبط فيها والتي سوف تبقى تتخبط بعدها حتى بعد موت "جوريجور" لان من طبيعة استمرار النظام والتنظيم أن يخضع المجتمع لتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تحتاج للتعبأة وتحتاج لتكاتف الجهود من أجل توجيهها نحو الأفضل.

هل سنصل يوما ما إلى السعادة الكاملة؟، لا أظن ذلك، فقد سبق "لأربيرت ماركيوس" أن قال في "الإنسان ذو البعد الواحد" بعد أن وصل إلى مرحلة السعادة التامة، وفي أخر سطر من روايته أنه كلما تأمل في الماضي يتذكر الدماء والآلام والمعاناة التي تكبدها السابقون من أجل أن يحظى هو بالسعادة... فلا وجود لسعادة أبديا ولا لأحزان أبدية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين