دستور 2011 كما قرأته
بعد الإقرار بالدستور الجديد فالمغرب يدخل مرحلة جديدة، بعد الخروج كم نفق دستور 1996، والذي كان موضوع انتقاد حتى ممن صوتوا عليه ب"نعم"، سواء كانت نصية أو سياسية، باعتبار أن "العهد الجديد" يقتضي آليات وقواعد لعبة مرتبطة بالمرحلة الحالية، لا ميكانيزمات المفاوضات والتسويات السياسية السابقة.
فالدستور السابق أهم معضلة عاشه تمثلت أساسا في إشكالية النصوص المكتوبة، التي كانت تضع مجموعة من الكوابح المؤسساتية أمام المؤسسات التمثلية أو التنفيذية، حيث تسمح بوجود دولتين داخل الدولة، دولة رسمية نراها عبر شاشات التلفاز ودولة لا نراها وهي صاحبة السلطة الحقيقية، والتي تشتغل ليس بالضرورة بشكل منظم أو وفق سس الدولة بمفهومها القانوني، بقدر ما كنا نجدها تتوزع من رأس الهرم إلى حدود آخر عون سلطة، حيث تسمح لهذا الجهاز احتكار مجموعة من الصلاحيات على المستوى الأفقي وعلى المستوى العمودي، وبالتالي نكون أما مجموعة من الموظفين يعملون كأجراء للسلطة ولأجهزتها.
من جهة أخرى، كانت إشكالية الدستور السابق، أنه كان سجين تأويلاته الأولى، حيث تفسر نصوص دستور 1996 بنفسه بنية تفسير نصوص دستور 1962 إلى غاية دستور 1992، حيث لم يستطع أن يفرز تأويلا خاصا به، رغم تغيير الهندسة الدستورية ولكن بقيت نفس فلسفة السلطة مؤطرة له، وهو العيب الذي جعل الممارسة السياسية من قبل جميع الفرقاء منها المؤسسة الملكية مرورا بالبرلمان والحكومة وصلا للأحزاب السياسية، تبقى على شاكلتها ولم تتبدل.
واليوم ونحن أمام هذا الدستور، يفرض سؤالا مهما، وهو سؤال توزيع السلط والأدوار، فهل ما جاء به كافيا للقول أننا دخلنا عهد الدستور الجديد؟
يمكن الإجابة بنعم ولكن...
من الناحية الشكلية، ومن خلال تمحص الهندسة الدستورية، نقول أننا أمام دستور جديد، سواء من ناحية مسطرة وضع أو من ناحية توزيع مواده، وخاصة الباب المخصص للملكية، حيث بالعودة للتجارب الدستورية السابقة نجد أن موقع الملكية في البناء الدستور لا يمس وإن دخل عليه بعض التعديلات الجزئية كما هو الشأن بإضافة "الممثل الأسمى" بالنسبة لدستور 1970، أو بتعيين اقتراح الوزير الأول للوزراء وتحديد أجال الأمر بتنفيذ القانون في ثلاثون يوما مع دستور 1992، مما يترجم أن موقع الملكية في الحقل السياسي والنظام السياسي لا يتزعزع ولا يتململ، ولكن مع الدستور الجديد نلاحظ أن الملكية انتقلت إلى الباب الثالث واحتل مجال الحريات والحقوق موقع الملكية، كما أن الفصل 19 تم تجزيئه وتفكيكه، وهو الفصل الذي يعني المساس به المساس بالملكية بشكل مباشر. بالإضافة إلى ذلك فإن عدد مواد الدستور الجديد أصبحت أكثر بكثير من التجارب السابقة التي كانت جد متقاربة في حدود المائة والثمانية، مما كان يوحي أن لا شيء يضاف أو يتغير.
نفس الملاحظة الشكلية، يمكن أن نخص بها المضمون، إذ أن أهم المؤسسات تمس تغييرها، بدسترة ثنائية برلمانية مختلفة جذريا عن تجربتي 1962، و1996، إذ تحول مجلس المستشارين من مؤسسة احتياطية للدولة أمام أي مفاجآت أو انفلاتات سياسية غير متوقعة، فأصبح مؤسسة تمثلية على مستوى التركيبة وعلى مستوى الوظيفة، وهو تحول مرتبط، بتحول أن الأمة تمارس سيادتها بشكل غير مباشر عبر ممثليها، عكس السابق الذي كانت تتحدث عن تمثلية المؤسسات، التي قد تكون منتخبة كما يمكن أن تكون معينة، أما الآن فالتمثيلية هي انتخابية فقط، يضاف إلى ذلك دسترة مجلس الحكومة وتسمية رئيس الحكومة عوض الوزير الأول، القضاء الذي أصبح سلطة، وأخير دسترة عدد مهم من المؤسسات الوطنية خاصة ذات الصلة بالحكامة الجيدة والسياسات العموميةـ أو تلك المرتبطة بمجال حقوق الإنسان.
هذه الملاحظات الشكلية والموضوعية حول الدستور الجديد، تمكننا من القول أننا حقيقة أما دستور جديد، ولكن تبقى حلقة مفرغة، والتي تحتاج أن نملئها جميعا، وهي الإشكالية السياسية والعملية، لأنه ليس منتوج قانوني صرف بقدر ما هو تعبير توازن القوى السياسية، حيث الكل لديه قرأته الخاصة ببنود وفصوله، مما سيجعلنا، أما تحديين، وهو الذي يمكن أن نقول حقيقة أمما دستور جديد.
التحدي الأول: يكمن في القطع مع التأويلات السابقة للدستور ولنصوصه، والعمل على تفسير الدستور انطلاقا من الخيار الديمقراطي، ليس انطلاقا من خيار إمارة المؤمنين، وهذا يقتضي أن نؤسس للعمل السياسي من داخل النص، لا أن نجعل الممارسة هي التي تفسر النص كما كن سابقا، بلا لا بد من تسييج الدستور وحماية من غموض التأويلات، ومن التنقيب عن دساتير الظل لفهم وتفسير قواعد اللعبة السياسية، وهذه لن تتأتى بالاحتجاج أو بالمزايدات الحزبية الضيقة، بل تقتضي "هنا والآن" أن تنخرط تلك القارة التي هجرت المغرب منذ زمن بعيد، وهي قارة النخبة المثقفة ورجال القانون المتسلحين بوعي الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، مثقفين عضويين لا مثقفي السخرة والإدارة كما سماهم ألتوسير، أو مثقفي البلاط الذي يقرؤون النصوص لشرعنة الممارسات والمبادرات التي لم تكن لها ترجمة في النصوص، مع إلغاء جميع القراءات السابقة بما فيها اجتهادات القضاء الإداري بخصوص مزرعة عبد العزيز، حول دور وصلاحيات الملك، وصولا إلى تأويلات وقراءات "باحنين" وتفسيرات المانوني والمعتصم حول التقليدانية بالمغرب، والولوج لعصر القراءة الجديدة، انطلاقا من فلسفة تصور بناء الدولة الحديثة والقراءات التي تكون سابقة على وقوع النوازل.
التحدي الثاني، يكمن في تنزيل الدستور على أرض الواقع، وهذا رهان مرتبطة أساسا بشخصية رئيس الحكومة القادر على قول لا والقادر على الالتزام ببرنامج حكومته، لا ببرنامج الدولة، والقادر على التحرر من مقول تنفيذا لتعليمات صاحب الجلالة والقول تنفيذا لبرنامج حكومتي، وهذا الرهان يعود بالأساس إلى الانخراط مبكرا في أي انتخابات نريد؟ والقادرة على إفراز هذه الشخصية، وهي معركة حقيقية لان الدولة لا تريد بشخصية من هذه الطينة القادرة على إحراجها بل تريد شخصية يغمى عليها في اللقاء الجماهيرية والتي تنتظر مكالمة اطمئنان على كرسيه بعد انسحاب فريق من الأغلبية إلى المعارضة، فالانخراط في هذا النقاش حول التقطيع الانتخابي ومدونة الانتخابات والقانون التنظيمي لمجلس النواب هي معركة مرتبطة أيضا بالكثلة الناخبة التي تقتضي الظرفية أن تعي أن صوتها أغلى ثمنا من الدراهم المعدودة التي يقدمها لهم أباطرة الانتخابات، وأن صوتها قادر على تغيير مجرى التاريخ، وإن اقتضى الحال ولم نستطع بلوغ توعية هذا المجتمع، فالقانون يجب أن يكون صارما وحازما في لعبة شراء الذمم، ومن جهة أخرى يجب أن تبعد المساجد ودور القرآن عن مجال السياسة بشكل قطعي سواء من قبل الدولة أو من قبل الأحزاب السياسية، لأننا سنكون إما أمام برلمان حقيقي يفرز مؤسسات التنفيذية ومؤسسات الحكامة الجيدة أو سوف نكون أما كارثة لا تحمد عقباها إذا كان برلمانا لا يستجيب للحظة التاريخية التي هو فيها.
هذان التحديان هما اللذان يقف عندهما الدستور ليكون جديدا، فالدستور الذي قرأته لمنظار اليوم لا علاقة له بالدستور الذي يمكن أن يطبق بمنظار الأمس، فالدستور الحالي أعرج واقف على قدم واحدة، والقدم الثانية ممكن أن نصنعها نحن جميعا حتى يمشي بشكل سوي...
فهذا هو ... دستور 2011 كما قرأته
تعليقات