السياسة في زمن الانحطاط

السياسة في زمن الانحطاط

يشكل المغرب استثناء بكل المقاييس، شاء أنصار التغيير الجذري أو أنصار الإصلاح الديمقراطي، أو حتى أنصار التيار المحافظ، ذلك أم كرهوا، فهو استثنائي بكل المقاييس بالنسبة لأول، لان نار الهشيم مست دول أكثر تسلط واستبداد من المغرب، ورغم ذلك بقي في معزل عن القلاقل والتوترات والانهيار، واستثنائي بالنسبة للثاني لأنه كلما تقدم المغرب خطوة للأمام نحو الحداثة، تقدمت إليه أطياف بألوان ومواقع مختلفة خطوتين، فسرعان ما يتقدم النظام خطوتين أيضا، ولكن نحو الخلف ويتقهقر، واستثنائي حتى بالنسبة للتيار المحافظ، فالمغرب يشكل استثناء بالمقارنة مع دول الجوار بسبب ماضيه وتماسك الشعب بأهداب العرش وبالا وراش الكبرى التي فتحها "جلالة الملك".

عود على بدء:

الدول، كائنات حية، تنمو وتكبر وتتطور وتتعقد وتشيخ وأكيد أنها يوما ما سوف تموت، فروما الخالدة، ليست ابنة يونان "رومولوس بن أسكانيوس" الذي قتل أخاه " ريموس". ، ولكنها اليوم هي ابنة "برليسكوني" صاحب فضيحة "روبي المغربية" والأزمة المالية، وهذه الدول تعش مدد طويلة بحسب قدرتها على تدبير التناقضات داخلها وتقعيد الصراعات في مستويات دنيا دون الوصول إلى بنية النظام وميكانيزمات اشتغاله.

إذا كان للدولة بمفهومها المؤسساتي أجهزة وآليات ضمان استمرارها، فللمجتمع نخب مثقفة وسياسية وبرجوازية وطنية، تعمل كضميره وبوصلته نحو التقدم والانخراط في تيار الديمقراطية، أما غياب هذه النخب، أو عدم استقلاليتها أو عدم قدرتها في تحويل مطالب الشرائح الاجتماعية إلى أجندات ومدخلات في اللعبة السوداء للنظام، فإن المجتمع يصاب بالعطب وبالخلل، ويكرس من عمق أزمته وتخلفه وفقره.

ظهرت نظريات سياسية في بداية السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن فكرة "الانحطاط"، وتقول هذه النظريات، بكون تدني نسبة المشاركة السياسية والانتخابية، وتراجع مؤشرات ممارسة المواطنة، وتكاثر القلاقل والتطاحنات داخل الدولة، يعود بالأساس إلى عامل "انحطاط" الأحزاب السياسية، مما قد يؤدي إلى موتها البطيء داخل مؤسسات الوساطة والتمثيلية، من قبيل البرلمان، و"انحطاط" هذا الأخير أيضا، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات وفي الدولة، بالإضافة إلى ذلك تقول النظريات ب"انحطاط" النخب الحاملة لمشروع بدائل الازدهار الوطني.

وبعدها استئناف

سنة 1998، تحلى بالجرأة رجل وقاد حكومة تناوب، وأدار ظهره إلى كل السهام التي أتته من الخلف ومن قبل أقرب المقربين، وخرج بعدها من الحياة السياسية وقال: "خرجنا عن المنهجية الديمقراطية"، وظل حزبه يؤدي فاتورة المشاركة السياسية في حكومة مجردة من كل أدوات الاشتغال والعمل، ومحاطة بألغام القصر وألغام صقور الفساد.

وفقدنا الثقة في معنى شيئا اسم القسم على القرآن، وشيء اسمه التناوب التوافقي، وفي الأحزاب السياسية ذات حمولة شعبية وديمقراطية، وفي برلمان يضم تجار الفساد والمخدرات حسب تعبيرات أحد قيادات نفس الحزب.

توج الهامش الديمقراطي المغربي، بالعودة إلى ما قبل تعيين حكومة التناوب التوافقي، وما قبل دستور 1996، بتعيين حكومة بلا لون ولا طعم سياسي لها، تكنقراطية في تشكيلتها وفي مهامها، نتيجة "مولا نوبا".

لنجد الفرج، أخيرا، في حكومة متورطة في الكذب على الشباب المعطل، والتواق للكرامة، من خلال أضحوكة شركة مجهولة الاسم باسم "النجاة"، قالت عن أحداث سيدي إيفني، "لا يقع شيئا هناك"، حكومة جندت مئات الطلبة الجامعيين من خلال شيء اسمه "الاتحاد العام لطلبة المغرب"، وأدمجنهم في الوظائف العمومية تعسفا على شباب محضر 20 يوليوز، كزاد انتخابي ونقابي فيما بعد.

لينتهي مسلسل "الانحطاط" بحكومة تنتقد الدولة !!!، وتصدر بيانات وبلاغات ضدها، بل وأكثر من ذلك تستقوي بالشارع وتهدد بالخروج للاحتجاج والالتحاق بالربيع "الديمقراطي"، في حالة فرملة برامجها، وتعتذر لموظفين في القصر الملكي بدعوى أنها لم "تخطأ"، فأصبح الصواب جريمة تقتضي الاعتذار، وعشنا لحظات تستطيع السلطات المحلية ( القايد) أن يمنع رئيس حكومة من لقاء خطاب في ساحة عمومية، وحكومة تطلب الرحمة والعفو والسماحة لصوص مال العام وللمفسدين، ورئيس حكومة كل همه: ( قالت لي امرأة عجوز، حكت لي امرأة عانس، التقيت امرأة أرملة، حديث النساء في الحمام...)، وأخيرا يقنعنا بأن النظام يحكمه العفاريت والتماسيح.

وهي حكومة لديها كل الإمكانيات الدستورية والقانونية وحتى الظروف الموضوعية، من سياق جيواستراتيجي دولي وسياق وطني باحتياطي مهم من الحلفاء الإسلاميين من "العدل والإحسان" والتيارات السلفية، من أجل ليس محاربة الفساد فقط ولكن "قلب النظام"، إن أرادت.

حالة سياسية مرضية، "انحطاط النخب السياسية والأحزاب والبرلمان والمؤسسات والدولة، ولم يبقى سوى الأمل في عودة "سبارتاكوس" من جديد ليخلص المجتمع من براثين التخلف والفقر ... وانعدام شيء اسمه "الكرامة".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين