في الأصل ..."الحرية"

في الأصل كانت ..."الحرية"

"وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلومـ واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي"

" أنواع البراهين وشروطها، القياس البرهاني والقياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي"

ابن رشد: كتاب فصل المقال و تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال، ص 38، ص 41

" ترى إذا لم يكن هناك إجماع مستفيض، فهل على العامة أن تعرف تأويل الراسخين في العلم الفلاسفة،؟ الخطابيون، وهم العامة من الناس أو غالب الجمهور. وهم ليسوا أهلاً للتأويل، وصنف جدلي بالطبع وبالعادة وهم جمهور من الفقهاء. وصنف البرهانيين، وهم الفلاسفة بالطبع والصناعة وهم أهل التأويل وأهل البرهان يجب ألا يصرحوا بتأويلهم للعامة أي لأهل الخطاب، إذ أنهم لا سبيل عندهم لفهمه ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها - وخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة- أفضى ذلك بالمصرّح له والمصّرح إلى الكفر."

ابن رشد و فلسفته, تأليف فرح انطون، ص 23؛

صدر مؤخرا رأي لأحد الدعاة الإسلاميين، والقريب من حزب "العدالة والتنمية" دعوة مبطنة بالقتل والتحريض على الكراهية والعنصرية، إزاء صحفي عبر عن رأيه بخصوص الحريات الفردية في عموميتها دون تجزيئ أو خصوصية.

الغلو، الذي نعيشه اليوم يعيدنا إلى محطات مهمة من تاريخ الإسلام وفي علاقته بالجماعات الدينية والحركات المناهضة لسلاطين البلاط، والتي كانت غالبها تتمركز حول نقطة جوهرية وهي إعمال "العقل".

إن النقاش حول "الحرية" اليوم يجب أن لا تخرج عن مستويين محددين لبناء الدولة الحديثة كما نظر لها فلاسفة عصر الأنوار من "مونيسكيو" و"جون لوك " و"طوماس هوبز" وغيرهم، والتي نجد بعض من أسسها في التراث الديني خاصة عند "ابن رشد" في كتبه التي وصلتنا دون أن تحرقها نيران "المنصور" في الأندلس في عصر ملوك الطوائف أو عند "الرازي" الذي تم ضربه بكتابه على رأسه حتى نزل الماء على عينيه.

عموما إشكالية "الحرية"، يمكن اختزالها في مستويين: الأول تحرير العقل، والثاني التعاقد الاجتماعي.

أولا: تحرير العقل

إن معضلة التيارات الدينية ومع مر التاريخ، ارتبطت بالخوف من تحرير العقل، في اتجاهات العلوم والفلسفة والفكر، هذه الميادين التي لا تؤمن بالخطوط الحمراء، كما أنها ترفض كل المسلمات الجاهزة وأحكام القيمة المسبقة حول ظاهرة معينة.

بل تنطلق من الشك، كأصل، للإثبات بالبرهان والدليل والحجج الدامغة، ووفق قوانين جدلية.

وهنا تحرير العقل، كان خطا موازيا مع تطور الأمم والشعوب، حيث انعكاسه أدى إلى تحرير الاقتصاد من أفول الإقطاعية والريع، وتحرير السياسية من السلطوية والديكتاتوريات وتحرير المجتمع من قيود التبعية والخنوع والخضوع لطاعة المستبد وإن كان عادلا، وتحرير الثقافة بالإبداع والإنتاج والفن وأخيرا تحرير الإنسان من أغلال التقاليد البالية والأعراف الأسطورية، لتؤمن بالإنسان ككيان قادر على تحقيق طموحه بنفسه وأن يقود نفسه بنفسه طوعا نحو السعادة.

إن الخوف من تحرير العقل أدى بالسلاطين على مر التاريخ إلى حرق كتب العلماء والفلاسفة وأدى إلى اغتيال أو نفي أي شخص يتجرأ على إعمال عقله رفضا "للمنقول" في فهم ما يجري ويدور حوله من تعقيدات المجتمع والظواهر الاجتماعية.

إن الدعوة لقتل كل رأي هو في باطنه قتل حرية التفكير وتحرير العقل وعودة الاستبداد وتكريس السلطوية، والدعوة للتحريض ضد رأي بدعوى وجود نصوص مقدسة غير قابلة للتدنيس، هو في الأصل دعوة لنفي الأخر، الشيء الذي يجسد استبداد الفكر الواحد والرأي الواحد والشخص الواحد والفهم الواحد ... الواحد المنفرد وما البشر إلا أدوات.

ثانيا: التعاقد الاجتماعي

ليس هنا المقصود بالعودة إلى العقد الاجتماعي كما أسس له فلاسفة الأنوار، ولكن التعاقد بمفهومه الحديث، الذي ينطلق من محددين، أولهما الاتفاق حول أي مجتمع نريد، أن نعيش فيه جميعا، وأن يقبل بالجميع بغض النظر عن المرجعيات المذهبية والإيديولوجية والاثنية وبغض النظر عن المواقع الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، بمعنى بالتوافق بشكل عام حول الأسس التي يمكن أن نعيشها في حد أدنى من القواسم المشتركة، وذلك نظرا "لموت أطروحة الإجماع" في عصر الحديث.

المحدد الثاني يكمن القوانين الوضعية التي نضعها لترجمة التوافق والتعاقد الاجتماعي، التي تنظم الحياة اليومية والمعيشية للفرد داخل الدولة، فالقوانين بطبيعتها، قابلة للتطور والتغيير والتعديل وحتى للحذف.

فلا يمكن أن نجعل النصوص المقدسة هي المنظمة للعلاقات الاجتماعية، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المجتمع يعرف دائما التطور والتعقيد من البسيط إلى المركب، وبالتالي تأطير المجتمع ككل بنصوص ثابتة، لن تكون دائما قادرة على احتواء وتنظيم العلاقات الاجتماعية، مما يقتضي أمرا لا ثالثا لهما في هذه الحالة، أن يواكب النص المقدس تطور المجتمع وبالتالي يجب تغييره وتعديله ليتكيف مع المعطيات الجديدة، وهو أمر غير مقبول لدى التيارات الدينية التي تقول "النص صالح لكل مكان وزمان". وإما أن يبقى المجتمع جامدا جمود النص وأن لا يعرف أي تطور، وهو أمر أيضا غير ممكن باعتبار أن من قوانين الطبيعة التطور، مما سوف يؤدي إلى انفجار المجتمع في وجه النص.

ليبقى الحل للخروج من هذه المعادلة المعقدة، وهي الابتعاد عن النصوص المقدسة، وتأسيس العلاقات الاجتماعية والسياسية والمدنية والاقتصادية على أساس "قوانين وضعية"، قابل للحذف أو التعديل أو إضافة قوانين جديدة وذلك بتوافق بين مكونات المجتمع مما يخدم مصلحة تقدم المجتمع ويتماشي معه.

خلاصة القول، إن موضوعة الحريات الفردية والحريات العامة غير مختزلة في العلاقات الجنسية الرضائية أو في الإفطار في رمضان لتأكيد حرية المعتقد، بل هي فقط مظاهر من تمظهرات "تحرير العقل" و"التعاقد الاجتماعي".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين