محمد الحرز حول وتحولات ما بعد الحداثة عند يورجن هابرماس
الفكر الغربي: مفهوم النزعة الإنسانية.. وتحولات ما بعد الحداثة
هناك ما يشبه النزعة إلى التفكك، والرغبة في التشظي والانحسار التي تطال المرجعيات الثقافية التي تخص الفكر الغربي، وما يتصل به من قيم ومبادئ تأسست على يد فلاسفة عصر الأنوار.هذه النزعة جرى تداولها منذ عقد الستينات والسبعينات حيث الإرهاصات المعرفية المتشعبة، وتحولاتها السريعة، وكذلك ضغوطاتها المؤرقة التي تقود العالم بالضرورة إلى الانزلاق في نفق العولمة الكونية وحتمية منطقه العابر للدول والشعوب، خصوصا بنموذجه الأمريكي الرأسمالي الليبرالي. لقد أصبحت أهم المفاهيم الفكرية لمشروع الحداثة مثل المفاهيم التي لها صلة بالتطور والتقدم والعقلانية والأيديولوجيا والنزعة الإنسانية والذاتية والاستلاب والوعي تفقد بريقها وقوة تأثيرها شيئا فشيئا على الخطاب الفلسفي، بينما ظهرت بالمقابل تيارات فكرية وخطابات معرفية لها سمات النزعة البنيوية والنزعة التفكيكية والفلسفة ما بعد التحليلية وكذلك النزعة البرجماتية الجديدة. هذه الخطابات تشكل مقاربات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية، ومفهوم الذات العاقلة باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفي الحداثي الذي خط معالمه الأولى ديكارت وكانط، لكنه من جانب آخر ظلت بعض المشاريع الفكرية تؤكد على أن الحداثة مشروع لم ينجز بعد والتي رفع شعارها فيلسوف الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت النقدية "يورجن هابرماس" حيث يرى أن نظرية الحداثة يجب أن تستند إلى التذاوت وتعتمد على التواصل المتكافئ والمتحرر من كل ضغط أو سيطرة، بحيث يقوده ذلك إلى عدم الحاجة إلى استلهام عناصر غير عقلية لنقد العقل، أو لتعبئة القوى المناوئة للحداثة والتي تشكل مقوما من مقوماتها " أي إن هابرماس بقي متشبثا بمنطلقه الذي يؤكد على أن نقد الحداثة لا يمكن أن يتم إلا من داخلها، فلا مجال إذن للرجوع إلى النماذج العتيقة أو إلى عوالم المتخيل للقيام بفعل النقد، والقيام بعملية الرجوع هذه تخرج صاحبها من إطار فلسفة الوعي بالضرورة. من ثم فالاختلاف الحقيقي عنده هو مواجهة الحداثة بعقل أكثر حداثة، وتغيير سياق فلسفة الذات بنظرية تذاوتية نقدية قادرة على قول خطاب برهاني صالح يحوز ما يكفي من المقومات لتعليل ادعاءاته والدفاع عن حقيقة وصدق ودقة قضايا وأفعال كلامه". لذلك نجده ميز في خطابه الفلسفي بين العقل التواصلي الفعال الذي حاول أن يبني عليه مشروعه الفكري النظري وبين العقل التقني الذي جعل إنسان ما بعد عصر الأنوار فاقدا كل دلالة تشي بإنسانيته، ومحولا إياه إلى مجرد جسد ينظر إليه كسلعة، وهذا ما أفضى بالتالي إلى وجود انشقاقات على المستوى الاجتماعي والإنساني والحياتي، الأمر الذي جعل من الفيلسوف هايدجر يقول إن التقنية هي ميتافيزيقيا العصر. ولم تسلم نظرية هابرماس من النقاش والنقد، بل فسحت المجال للنقد المضاد الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد السجال، هنا نجد _ مثلا _ الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في سياق سجاله الفلسفي ضد هابرماس يرى " أن هذه النظرية تقوم على فرضية مستلهمة من هيجل وعلى فرضية ثانية هي أقرب إلى روح نقد الحكم لكانط، لكنها مثلها مثل النقد يجب أن تخضع لعادة الفحص الصارمة التي تفرضها ما بعد الحداثة على فكر التنوير، على فكر هدف موحد للتاريخ والذات اتسمت به غائية الميتافيزيقيا الغربية ".وإذا كان هذا النقد يميز لحظة ما بعد الحداثة عن لحظة الحداثة، فإن منطلقاتها النقدية ترتكز على رفضها التام لشعار التنوير واعتباره مجرد وهم، وإن النظريات والأفكار ما هي إلا تعبير عن إرادة السلطة، وليس فوكو ودريدا وجيل دولوز وليوتار سوى الممثلين لهذا التوجه. خلاصة القول إذا كان منطق الحداثة الفلسفية قائماً على ما هو جديد وموحد ومتعقل، فإن نظيره ما بعد الحداثي قائم على ما هو زائل ومتشذر ومفصل وفوضوي.إن الرجوع إلى المسألة المركزية في الفلسفة المعاصرة هو في العمق منه رجوع إلى مسألة النزعة الإنسانية التي هيمن النقاش فيها على مجمل الدراسات والأبحاث والندوات والمناظرات التي انجزت في ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تطلق صفة النزعة الإنسانية على كل فلسفة " تتخذ من الإنسان محورا لتفكيرها وغايتها وقيمها العليا" _ ينظر في ذلك الدكتور عبدالرزاق الدواي - موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر - بمعنى أنها تهتم بالإنسان وتخصه بمكانة ممتازة في العالم، وفي تطور التاريخ وفي تطور سيرة المعرفة، وتعتبره كذلك قادرا على المبادرة والإبداع، وتؤكد على أولوية الوعي والإرادة في كل مشروع تأسيسي، وتنطلق من الذات والذاتية للبحث عن شروط تأسيس الموضوع والموضوعية, وتؤمن بأن المبادرات البشرية تساهم في صناعة التاريخ، وأن التاريخ يحقق نوعا من التقدم، وإن لذلك التقدم اتجاها ومعنى مرتبطين بفعاليات وأهداف بشرية متحققة، وإن هذه التصورات والأفكار تعتبر بمثابة أوهام _ كما أشرنا سابقا _ تستند على هشاشة مفهوم الإنسان وضعفه وعقم مبادراته في تغيير الحياة. وهذا الرأي ذاته هو الذي تردده التيارات الفلسفية المنتقدة للنزعة الإنسانية وإن تباينت أصواتها الفلسفية المختلفة حسب الحقل المختص، والرافد الثقافي المؤثر. وربما كان العامل المشترك الذي يسيطر على اشتغالاتهم الفكرية هو هيمنة روح التقويض والتفكيك " تفكيك العقل والعقلانية والمبادئ والقيم والمعنى والدلالات والأهداف والغايات والتاريخ، أي تفكيك الإنسان وعالمه الثقافي " حيث تحول الإنسان من منظور الفكر المعاصر من مشيد للحضارات ومبدع للثقافات، من سليل برومثيوس إلى مجرد نسخة جديدة عن سيزيف كما يعبر عن ذلك "jean brun"، وبدا واضحا أن الفكر المعاصر في توجهاته التفكيكية يستعيض عن فكرة الإنسان بالإحالة إلى الأنساق اللاشعورية وإبدال الذات المتكلمة باللغة كنسق مقفل مكتف بذاته، والإنسان المُنتج بنسق الإنتاج، والإنسان العالم الباحث بالمعرفة كسياق بدون ذات حتى قيل "بأن البنيات اللاشعورية هي التي تحدد بكيفية مسبقة وظيفة الفرد في المجتمع وتختفي وراء الأقنعة والشخصيات التي يتقمصها" ويمكن أن نتلمس تجلياتها بوضوح مطلق في الخطاب الأنثروبولجي البنيوي عند شتروس، والنقد الجينالوجي عند فوكو، والنقد التفكيكي عند دريدا، نقول ذلك ونحن لا نغفل الأرضية الفلسفية التي يقفون عليها خصوصا فوكو. هذه الأرضية ترجع في غالبيتها إلى نقد نيتشة من خلال الجهد الذي بذله في تقويض الميتافيزيقيا الغربية، وما يتعلق بها من مفاهيم وأفكار وتصورات.
* ناقد سعودي
* ناقد سعودي
تعليقات