هابرماس
خطر لي تقديم بعض رموز التيارات النظرية والفلسفية المعاصرة، وبيان أوجه من النقاشات المستعرة في المركز الكوني حول مستقبل الاجتماع البشري، خاصة تلك التي تنظر في إمكانية التحول الاجتماعي، منافسة للشجرة الماركسية أو معضدة لها، تنويعاً و تطويراً. ليس في سبيل البحث عن "أصولية" ماركسية، ولكن بغرض تقصي علوم "التحرير" في عالمنا المعاصر بالتضاد مع عقيدة الجمود الرأسمالية باسم "نهاية التاريخ"، وهي عبارة آيديولوجية قحة اتخذت شارة الحق في الدعاية الليبرالية الجديدة تدليساً. أول من اخترت منقذ مشروع الحداثة غزيز الإنتاج: يورغن هابرماس.
يعتبر يورغن هابرماس (مواليد 1929م) من أبرز الفلاسفة الألمان المعاصرين، كما يعتبر وريثاً لمدرسة فرانكفورت (ماكس هوركهايمر، ثيودور أدورنو، هربرت ماركيوز، وآخرون). تركز أعماله بالدرجة الأولى على عملية نشوء وتحول (الرأي العام)، بجانب كيفيات وإشكاليات تكوين الأفكار، وفي المحصلة كيفية تخلق (الحوار العقلاني) في المجتمعات الحديثة المتقدمة. بهذا المنظور يمكن اعتبار هابرماس أحد أهم المنافحين المعاصرين عن مشروع (التنوير) الأوروبي. من جهة أخرى يمكن قراءة أعمال هابرماس باعتبارها محاولة لتطوير منهج توليفي في الماركسية أو (النيوماركسية) المعاصرة يستقي من مصادر متعددة، في هذا السياق يمكن إدراك تشديد هابرماس المتكرر على مفاهيم (التشبيك) و(الحوار). من ناحية تطبيقية كان لأفكاره وقع فعال على الكثير من الحركات الاجتماعية في العالم المعاصر، بالدرجة الأولى في أوروبا. من ثم، إذا كان من تصنيف لأعمال هابرماس فهي تتوزع بين ثلاثة قضايا محورية: ركائز النظرية الاجتماعية ونظرية المعرفة؛ تحليل المجتمع الرأسمالي المتقدم؛ الديموقراطية وحكم القانون في محتوى التطور والترقي الاجتماعي.
يعتبر يورغن هابرماس (مواليد 1929م) من أبرز الفلاسفة الألمان المعاصرين، كما يعتبر وريثاً لمدرسة فرانكفورت (ماكس هوركهايمر، ثيودور أدورنو، هربرت ماركيوز، وآخرون). تركز أعماله بالدرجة الأولى على عملية نشوء وتحول (الرأي العام)، بجانب كيفيات وإشكاليات تكوين الأفكار، وفي المحصلة كيفية تخلق (الحوار العقلاني) في المجتمعات الحديثة المتقدمة. بهذا المنظور يمكن اعتبار هابرماس أحد أهم المنافحين المعاصرين عن مشروع (التنوير) الأوروبي. من جهة أخرى يمكن قراءة أعمال هابرماس باعتبارها محاولة لتطوير منهج توليفي في الماركسية أو (النيوماركسية) المعاصرة يستقي من مصادر متعددة، في هذا السياق يمكن إدراك تشديد هابرماس المتكرر على مفاهيم (التشبيك) و(الحوار). من ناحية تطبيقية كان لأفكاره وقع فعال على الكثير من الحركات الاجتماعية في العالم المعاصر، بالدرجة الأولى في أوروبا. من ثم، إذا كان من تصنيف لأعمال هابرماس فهي تتوزع بين ثلاثة قضايا محورية: ركائز النظرية الاجتماعية ونظرية المعرفة؛ تحليل المجتمع الرأسمالي المتقدم؛ الديموقراطية وحكم القانون في محتوى التطور والترقي الاجتماعي.
بجانب اندراج أفكاره ضمن ما يعرف باسم (النظرية النقدية) يمثل فكر هابرماس هيكل تكاملي للفلسفة والنظرية الاجتماعية حيث ينهل من تراث إيمانويل كانط، وفريدريش شيلنغ، وفريدريش هيغل، وفيلهلم ديلثي، وادموند هوسرل، وهانز جورج غادامر، بالإضافة إلى اعتماده الجزئي على كارل ماركس والمدارس النيوماركسية، وإدماجه كل هذا في سياق نظريات علم الاجتماع بخاصة أعمال ماكس فيبر، وإميل دوركهايم، وجورج هربرت ميد، بالتشبيك مع نظريات الفلسفة اللغوية، في المقام الأول لودفيغ فيتغنشتاين، وجون ل. أوستن، وجون ر. سيرل، وكذلك التراث البراغماتي الأميركي: شارلز س. بيرس، وجون ديوي، وتالكوت بارسونز. أوضح هابرماس في عمله المبكر (التحول الهيكلي في المجال العام) أن التصور البرجوازي للديموقراطية ما هو إلا ترجمة لعلاقات البيع والشراء في عالم السياسة، شارحاً أنه، كما في السوق، تنشأ بالضرورة تحت هذه الشروط احتكارات للرأي تحت سيطرة الفئات المهيمنة. في مؤلفه (المعرفة والمنفعة البشرية) ميز هابرماس بين المنافع التقنية التي تدفع البحث الامبريقي التحليلي، وبين المنافع العملية التي تدفع العلوم الانسانية والتي اعتبرها مناط (العقل الاتصالي)، كما فرز مجالاً ثالثاً لمنافع التحرير التي تدفع البحث الفلسفي المختص بكشف ميكانيزمات عرقلة تكون (الإجماع) المضاد أو المعارض بواسطة قوى مختلفة اجتماعية كانت أم نفسية. هابرماس نفسه يعتبر أن انجازه الفكري الأساسي هو تطوير مفهوم ونظرية (العقل الاتصالي) التي تتميز عن التراث العقلاني الأوروبي بموضعة العقلانية في هيكل الاتصال اللغوي بين الأفراد، وليس في هيكل كوني الفاعل فيه هو الإنسان العارف. بهذه القراءة يحسب هابرماس نفسه في صف تراث كانط والتنوير الأوروبي عموماً، وعلى مستوى آخر في صف الاشتراكية الديموقراطية، إذا جاز التعبير، وذلك بتركيزه على إمكانية (تحول) العالم والوصول إلى مجتمع أكثر انسانية وعدلاً ومساواة عبر تحقيق الإمكانيات العقلانية للبشرية. كان هابرماس تلميذاً لكل من ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، فهو من الجيل الثاني في مدرسة فرانكفورت، لكنه يفارقهما بقطيعته مع الموقف الفلسفي المضاد للتراث الغربي والمضاد للعقلانية الغربية الذي انتهجه الأولون من مدرسة فرانكفورت متخذاً موقفاً بنائياً في تقييمه النقدي للمؤسسات والعقلانية الغربية. في مؤلفه الأساسي (نظرية الفعل الاتصالي) يجادل هابرماس منظري العقلانية وعلماء الاجتماع الكبار بمواجهته الفكرة التقليدية القائلة بالعقل الموضوعي الادراكي الأداتي (الوظيفي) بمقدرات عقلانية أخرى تقوم بمهام ذاتية وبين – ذاتية في النسيج الخصب للتفاعل الاجتماعي، ومنها يخلص إلى تطوير مجال نظري جديد تحت مفهوم (أخلاقيات الخطاب). في مباحثه حول أعمال كارل ماركس يشدد هابرماس على جانب (الأنسنة)، وينطلق منه للاشتغال بالشد والجذب الهيغلي بين النظرية والتطبيق في الفلسفة، مع الدفاع الأكيد عن التصور الكانطي للعقلانية في وجه التفكيك الناقد لمفكري ما بعد الحداثة. لذا تأتي الإشارة إلى هابرماس عادة في سياق النقاش المستعر حول أطروحات ما بعد الحداثة وذلك بالاقتران مع فوكو وليوتار وغادامر، لكن النقاش يبدو في أحيان كثيرة إعادة صياغة وتجديد للمقارعة بين كانط وهيغل، حيث يتخذ هابرماس جانب عقلانية كانط بالتزامه الواثق نحو تراث العقلانية والأخلاق، وفي مركز هذا المشروع مفاهيم كانط حول (العقلانية) و(المشروعية الكونية). وبذا يحاول العودة بماركس إلى ما يعتبره استراتيجية الأخير (الأصيلة) عن طريق إعادة بناء مفهومي كانظ المركزيين وتنقية التراث النقدي من (الصفوية). من هنا يأتي انشغال هابرماس باعادة الاعتبار لأعمال اجتماعية فسلفية طالها نقد مبرح: ماكس فيبر، فيلهلم ديلثي، جورج لوكاش، سيغموند فرويد، ومن المعاصرين جان بياجيه، وشتيفن تولمين. على هذا الأساس عادة ما يصدر النقد الروتيني لأعمال هابرماس من جهة مفكري ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وكذلك الحركة الأنثوية. ولعل أقسى حكم صدر ضده كان حكم إدوارد سعيد الذي اعتبر هابرماس ناطقاً باسم الموقف الفلسفي المعارض للسياسة، أو المتجاوز لها بمعنى الحياد.
هابرماس والمجال العام
أكثر بحوث هابرماس اكتمالاً في شأن المجال العام هي مؤلفه (التحول الهيكلي في المجال العام)، كما يعود إيماءاً إلى ذات النقاش في الجزء الثاني من (نظرية الفعل الاتصالي). يميز هابرماس بين ما يدعوه (العالم الحياتي) وبين (النظام). مع أن هذا التمييز يمكن مقارنته بالتقابل بين (المجال الخاص) و(المجال العام) إلا أنهما لا يتماثلان. من جهة يخضع العقل في العالم الحديث لجملة إملاءات تقوم بوظيفتها بحسب عقلانية الغاية والوسيلة، ومثال ذلك النموذجي السوق. ومن جهة أخرى تخضع الأفعال البشرية لإملاء القيم والمثل التي يتم تمريرها عبر الاتصال البشري ويتم تبنيها اجتماعياً لتشكل نسيج العالم الحياتي.
هابرماس ونظرية الاتصال
مساهمة هابرماس الأبرز في (نظرية الاتصال) هي تطوير الجهاز النظري التفصيلي الذي جاء وصفه في الجزء الثاني من (نظرية الفعل الاتصالي). تشغل (القوة) موقعاً مفتاحياً في تصور هابرماس للعقل الاتصالي، وبالاستناد إلى ذلك يحاول مقاربة القضايا التالية: مفهوم ذو معنى للعقل الاتصالي؛ مفهوم للنظام الاجتماعي؛ نظرية ملائمة للعقلانية؛ تشخيص المجتمع الحاضر. يعرف هابرماس (العقل الاتصالي) بأنه عملية دائرية للفاعل فيها دوران: الفاعل المدشن المتحكم في مواقفه عبر فعالية هو عنها مسؤول؛ والمفعول به المتأثر بالإزاحات من حوله باعتباره نتاج مجموعات ينتمي إليها ويتوقف تماسكها الاجتماعي على خاصة التضامن الجمعي، وباعتباره خاضع لعمليات الإدماج الاجتماعي التي من خلالها نشأ وفيها ترعرع. ولعل ما ينتهي إليه المبحث هو وجود لحظة (عقلانية اتصالية) غير قابلة للاهلاك في صلب التشكيل الاجتماعي لحياة الإنسان.
هابرماس والنظرية النقدية
يبدو أن هابرماس هو المنظر الحاضر الوحيد صاحب الاستعداد للدفاع عن تراث الحداثة الأوروبية، فهو المنافح الأول عن التراث العقلاني للتنوير، رغم أنه تلميذ أدورنو الذي أعمل في هذا التراث آلة الشك. هابرماس يعتقد بوجود فرصة دائمة لإنقاذ ما في التنوير من عقلانية، فهو يرى أن ما أنجزه فلاسفة القرن الثامن عشر هو محاولة رائدة منهم لتطوير العلم الموضوعي، والأخلاق الكونية، والقانون الكوني، والفن المستقل، وذلك بحسب المنطق الداخلي لكل من هذه المجالات، بمعنى آخر حسب عبارة هابرماس: حاولت هذه الجماعة من مفكري الحداثة الأبكار ترتيب الحياة الاجتماعية اليومية عقلانياً. مع مساهمته في بيان ميكانيزمات الهيمنة في المجتمع الحديث يتمسك هابرماس بالتقليد الفلسفي الكلاسيكي وعقلانية التنوير. بذل هابرماس جهداً مكثفاً في تقصي فكر التنوير وتراثه من خلال تحليل نقدي لواقعه وتاريخانيته، وأمراضه، وفرصه المستقبلية. عليه، يقف هابرماس تقريباً وحيداً في معارضة التيار الغالب في الفكر الفلسفي المعاصر: أتباع نيتشه الجدد من مفكري ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. عند هؤلاء التنوير محض حكاية كبرى للتقدم والحرية مكانها المناسب سلة القمامة الفكرية، لا تجدي معها محاولات الإنقاذ، ولا بد للعقلانية الأوروبية أن تعلن إفلاسها. أما هابرماس فيعتبر أن الانتقادات الموجهة لمشروع التنوير من هذا المعسكر لا تقف على أية ارضية يعتد بها و فاقدة الحس بالإتجاه، وربما (عدمية). في سياق حوار لم يدم طويلاً مع ميشيل فوكو إتهم هابرماس الأخير باللاعقلانية ما دام قد أعجزه شرح المقاييس التي يعتبرها هابرماس ضمنية في أي إدانه للحاضر. يدافع هابرماس بشدة عن مشروعه إعادة بناء تقليد التنوير الحديث، ضد نقاد الحداثة الذين يعتبرهم من أعداء الحداثة لما في وجهات نظرهم من تضمينات رجعية. افتراض هابرماس أن هنالك امكانية لاستعادة مشروع الحداثة وعلى هذا الأساس يحتج على تشخيص هوركهايمر، وأدورنو، ونيتشه، وهايدغر، وفوكو، وديريدا. أما وسيلته إلى إعادة بناء الحداثة فتتمثل في نظريته (العقل الاتصالي). المهمة التي تواجه هابرماس في هذا الخصوص هي التفوق على تشاؤم الحداثة المتأخرة الذي انغمس فيه رواد مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وأدورنو) بتجاوز محنة العقل المتمحور حول الذات من خلال نموذج (العقل الاتصالي). بحسب هابرماس يكمن الأساس المشترك للاعتقاد في مستقبل الإنسان في الهياكل المشتركة لأخلاقيات الخطاب، وليس في العقل البحت.
في نظريته النقدية يميز هابرماس بين ثلاثة مجالات للمعرفة، لكل منها منهج خاص ومقياس خاص للمشروعية، وهي بدروها تستجيب لثلاثة أوجه للمنفعة البشرية ذات الأصل المستقر في الوجود الاجتماعي: العمل، والتفاعل (الاجتماعي)، والقوة.
(1) معارف العمل: العمل على وجه العموم هو طرائق التحكم في، واستغلال البيئة المحيطة، وهو ما يعرف عادة بالفعل الأداتي (الوظيفي). معارف العمل تقوم على البحث الامبريقي – التحليلي، وتتحكم فيها قواعد فنية، أما مقياس العمل الملائم فهو فعالية التحكم في الواقع. تستند العلوم الامبريقية – التحليلية في أدائها على نظريات تعتمد نسق الفرضية والاستنتاج. على هذا الأساس فإن جميع العلوم الطبيعية البحثية من شاكلة الكيمياء والفيزياء والأحياء تعتبر بحسب تصنيف هابرماس ضمن معارف العمل.
(2) معارف الفعل: مجال الفعل عند هابرماس هو التفاعل الاجتماعي أو (الفعل الاتصالي). بذا تستند العلوم الاجتماعية في مشروعيتها على المثل المتعارف عليها اجتماعياً والتي تحدد بدورها ما هو متوقع من سلوك فردي واجتماعي. مع أنه يمكن تقصي ارتباطات ما بين المثل الاجتماعية وبين الفرضيات الامبريقية – التحليلية إلا أن مشروعية المثل الاجتماعية محلها التفاهم بين الذوات وصولاً إلى تفهم متبادل لمقاصد كل طرف. المقياس المعتمد في هذا المجال من المعرفة هو عملية توضيح الشروط الملائمة للاتصال والتفاعل بين الذوات من حيث المعنى وليس علاقة السببية، وذلك لتحديد ما هو الفعل الملائم. على هذا الأساس يعتبر هابرماس كل العلوم التاريخية – الهرمنطيقية ضمن هذا المجال من المعرفة، على سبيل المثال: العلوم الاجتماعية الوصفية، التاريخ، علم الجمال، القانون، والاثنوغرافيا.
(3) معارف التحرير: مجال التحرير يشمل اجتهاد الذات معرفة نفسها، أو التأمل في الذات. أما مدخل المنفعة إلى هذا المجال فيتمثل في صياغة التاريخ والسيرة بما يوافق الرؤى الذاتية والتوقعات الاجتماعية. التحرير مطلوب إذن من القوى المؤسسية والبيئية والجنسية التي تحد من خيارات الإنسان، ومن التحكم العقلاني في الحياة، والتي يؤخذ بها باعتبارها أمراً واقعاً لا يقوى الانسان الفكاك منه، وواقعة خارج دائرة تحكمه. على هذا الأساس فإن البصيرة المستمدة من الوعي النقدي تعتبر تحريرية بما أنها تسمح بالتعرف على الأسباب الصحيحة والحقيقية لما يواجه الإنسان من مشاكل. معارف التحرير تتأتى من خلال التحرير الذاتي الناتج عن التأمل والذي يفضي إلى (تحول الوعي) أو(تحول المنظور). أمثلة هذا النمط من المعرفة عند هابرماس هي نظريات الأنثوية، والتحليل النفسي، ونقد الآيديولوجيا. يكمن وجه الشبه بين نظرية هابرماس النقدية وبين مشروع ماركس في اتفاق هابرماس مع ماركس على ضرورة الوعي بالتشويه الآيديولوجي للواقع، وضرورة الوعي بالعوامل التي تغذي الوعي الكاذب الذي ما هو إلا انعكاس لمصالح القوى المهيمنة. من هذا الباب يقترب مفهوم (تحول المنظور) أو (تحول الوعي) لدى هابرماس من مفهوم (الوعي) لدى ماركس، وكذلك من مفهوم الوعي (الناجز) المصاحب للبحث العلمي على إطلاقه، من حيث التأكيد على ضرورة التحرر من الآيديولوجيات الجنسية والعرقية والدينية والتربوية والمهنية والسياسية والاقتصادية والتقنية التي تعزز العلاقة الاعتمادية مع القوى المهيمنة. أما وجه الاختلاف فيتمثل في أن (تحول الوعي) عند ماركس يفضي إلى شكل من أشكال الفعل قابل للتوقع، مثلاً التخلص من الملكية الفردية. بالمقارنة، لا ينتج عن (تحول الوعي) لدي هابرماس أي التزام بفعل قابل للتوقع.
هابرماس والمجال العام
أكثر بحوث هابرماس اكتمالاً في شأن المجال العام هي مؤلفه (التحول الهيكلي في المجال العام)، كما يعود إيماءاً إلى ذات النقاش في الجزء الثاني من (نظرية الفعل الاتصالي). يميز هابرماس بين ما يدعوه (العالم الحياتي) وبين (النظام). مع أن هذا التمييز يمكن مقارنته بالتقابل بين (المجال الخاص) و(المجال العام) إلا أنهما لا يتماثلان. من جهة يخضع العقل في العالم الحديث لجملة إملاءات تقوم بوظيفتها بحسب عقلانية الغاية والوسيلة، ومثال ذلك النموذجي السوق. ومن جهة أخرى تخضع الأفعال البشرية لإملاء القيم والمثل التي يتم تمريرها عبر الاتصال البشري ويتم تبنيها اجتماعياً لتشكل نسيج العالم الحياتي.
هابرماس ونظرية الاتصال
مساهمة هابرماس الأبرز في (نظرية الاتصال) هي تطوير الجهاز النظري التفصيلي الذي جاء وصفه في الجزء الثاني من (نظرية الفعل الاتصالي). تشغل (القوة) موقعاً مفتاحياً في تصور هابرماس للعقل الاتصالي، وبالاستناد إلى ذلك يحاول مقاربة القضايا التالية: مفهوم ذو معنى للعقل الاتصالي؛ مفهوم للنظام الاجتماعي؛ نظرية ملائمة للعقلانية؛ تشخيص المجتمع الحاضر. يعرف هابرماس (العقل الاتصالي) بأنه عملية دائرية للفاعل فيها دوران: الفاعل المدشن المتحكم في مواقفه عبر فعالية هو عنها مسؤول؛ والمفعول به المتأثر بالإزاحات من حوله باعتباره نتاج مجموعات ينتمي إليها ويتوقف تماسكها الاجتماعي على خاصة التضامن الجمعي، وباعتباره خاضع لعمليات الإدماج الاجتماعي التي من خلالها نشأ وفيها ترعرع. ولعل ما ينتهي إليه المبحث هو وجود لحظة (عقلانية اتصالية) غير قابلة للاهلاك في صلب التشكيل الاجتماعي لحياة الإنسان.
هابرماس والنظرية النقدية
يبدو أن هابرماس هو المنظر الحاضر الوحيد صاحب الاستعداد للدفاع عن تراث الحداثة الأوروبية، فهو المنافح الأول عن التراث العقلاني للتنوير، رغم أنه تلميذ أدورنو الذي أعمل في هذا التراث آلة الشك. هابرماس يعتقد بوجود فرصة دائمة لإنقاذ ما في التنوير من عقلانية، فهو يرى أن ما أنجزه فلاسفة القرن الثامن عشر هو محاولة رائدة منهم لتطوير العلم الموضوعي، والأخلاق الكونية، والقانون الكوني، والفن المستقل، وذلك بحسب المنطق الداخلي لكل من هذه المجالات، بمعنى آخر حسب عبارة هابرماس: حاولت هذه الجماعة من مفكري الحداثة الأبكار ترتيب الحياة الاجتماعية اليومية عقلانياً. مع مساهمته في بيان ميكانيزمات الهيمنة في المجتمع الحديث يتمسك هابرماس بالتقليد الفلسفي الكلاسيكي وعقلانية التنوير. بذل هابرماس جهداً مكثفاً في تقصي فكر التنوير وتراثه من خلال تحليل نقدي لواقعه وتاريخانيته، وأمراضه، وفرصه المستقبلية. عليه، يقف هابرماس تقريباً وحيداً في معارضة التيار الغالب في الفكر الفلسفي المعاصر: أتباع نيتشه الجدد من مفكري ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. عند هؤلاء التنوير محض حكاية كبرى للتقدم والحرية مكانها المناسب سلة القمامة الفكرية، لا تجدي معها محاولات الإنقاذ، ولا بد للعقلانية الأوروبية أن تعلن إفلاسها. أما هابرماس فيعتبر أن الانتقادات الموجهة لمشروع التنوير من هذا المعسكر لا تقف على أية ارضية يعتد بها و فاقدة الحس بالإتجاه، وربما (عدمية). في سياق حوار لم يدم طويلاً مع ميشيل فوكو إتهم هابرماس الأخير باللاعقلانية ما دام قد أعجزه شرح المقاييس التي يعتبرها هابرماس ضمنية في أي إدانه للحاضر. يدافع هابرماس بشدة عن مشروعه إعادة بناء تقليد التنوير الحديث، ضد نقاد الحداثة الذين يعتبرهم من أعداء الحداثة لما في وجهات نظرهم من تضمينات رجعية. افتراض هابرماس أن هنالك امكانية لاستعادة مشروع الحداثة وعلى هذا الأساس يحتج على تشخيص هوركهايمر، وأدورنو، ونيتشه، وهايدغر، وفوكو، وديريدا. أما وسيلته إلى إعادة بناء الحداثة فتتمثل في نظريته (العقل الاتصالي). المهمة التي تواجه هابرماس في هذا الخصوص هي التفوق على تشاؤم الحداثة المتأخرة الذي انغمس فيه رواد مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وأدورنو) بتجاوز محنة العقل المتمحور حول الذات من خلال نموذج (العقل الاتصالي). بحسب هابرماس يكمن الأساس المشترك للاعتقاد في مستقبل الإنسان في الهياكل المشتركة لأخلاقيات الخطاب، وليس في العقل البحت.
في نظريته النقدية يميز هابرماس بين ثلاثة مجالات للمعرفة، لكل منها منهج خاص ومقياس خاص للمشروعية، وهي بدروها تستجيب لثلاثة أوجه للمنفعة البشرية ذات الأصل المستقر في الوجود الاجتماعي: العمل، والتفاعل (الاجتماعي)، والقوة.
(1) معارف العمل: العمل على وجه العموم هو طرائق التحكم في، واستغلال البيئة المحيطة، وهو ما يعرف عادة بالفعل الأداتي (الوظيفي). معارف العمل تقوم على البحث الامبريقي – التحليلي، وتتحكم فيها قواعد فنية، أما مقياس العمل الملائم فهو فعالية التحكم في الواقع. تستند العلوم الامبريقية – التحليلية في أدائها على نظريات تعتمد نسق الفرضية والاستنتاج. على هذا الأساس فإن جميع العلوم الطبيعية البحثية من شاكلة الكيمياء والفيزياء والأحياء تعتبر بحسب تصنيف هابرماس ضمن معارف العمل.
(2) معارف الفعل: مجال الفعل عند هابرماس هو التفاعل الاجتماعي أو (الفعل الاتصالي). بذا تستند العلوم الاجتماعية في مشروعيتها على المثل المتعارف عليها اجتماعياً والتي تحدد بدورها ما هو متوقع من سلوك فردي واجتماعي. مع أنه يمكن تقصي ارتباطات ما بين المثل الاجتماعية وبين الفرضيات الامبريقية – التحليلية إلا أن مشروعية المثل الاجتماعية محلها التفاهم بين الذوات وصولاً إلى تفهم متبادل لمقاصد كل طرف. المقياس المعتمد في هذا المجال من المعرفة هو عملية توضيح الشروط الملائمة للاتصال والتفاعل بين الذوات من حيث المعنى وليس علاقة السببية، وذلك لتحديد ما هو الفعل الملائم. على هذا الأساس يعتبر هابرماس كل العلوم التاريخية – الهرمنطيقية ضمن هذا المجال من المعرفة، على سبيل المثال: العلوم الاجتماعية الوصفية، التاريخ، علم الجمال، القانون، والاثنوغرافيا.
(3) معارف التحرير: مجال التحرير يشمل اجتهاد الذات معرفة نفسها، أو التأمل في الذات. أما مدخل المنفعة إلى هذا المجال فيتمثل في صياغة التاريخ والسيرة بما يوافق الرؤى الذاتية والتوقعات الاجتماعية. التحرير مطلوب إذن من القوى المؤسسية والبيئية والجنسية التي تحد من خيارات الإنسان، ومن التحكم العقلاني في الحياة، والتي يؤخذ بها باعتبارها أمراً واقعاً لا يقوى الانسان الفكاك منه، وواقعة خارج دائرة تحكمه. على هذا الأساس فإن البصيرة المستمدة من الوعي النقدي تعتبر تحريرية بما أنها تسمح بالتعرف على الأسباب الصحيحة والحقيقية لما يواجه الإنسان من مشاكل. معارف التحرير تتأتى من خلال التحرير الذاتي الناتج عن التأمل والذي يفضي إلى (تحول الوعي) أو(تحول المنظور). أمثلة هذا النمط من المعرفة عند هابرماس هي نظريات الأنثوية، والتحليل النفسي، ونقد الآيديولوجيا. يكمن وجه الشبه بين نظرية هابرماس النقدية وبين مشروع ماركس في اتفاق هابرماس مع ماركس على ضرورة الوعي بالتشويه الآيديولوجي للواقع، وضرورة الوعي بالعوامل التي تغذي الوعي الكاذب الذي ما هو إلا انعكاس لمصالح القوى المهيمنة. من هذا الباب يقترب مفهوم (تحول المنظور) أو (تحول الوعي) لدى هابرماس من مفهوم (الوعي) لدى ماركس، وكذلك من مفهوم الوعي (الناجز) المصاحب للبحث العلمي على إطلاقه، من حيث التأكيد على ضرورة التحرر من الآيديولوجيات الجنسية والعرقية والدينية والتربوية والمهنية والسياسية والاقتصادية والتقنية التي تعزز العلاقة الاعتمادية مع القوى المهيمنة. أما وجه الاختلاف فيتمثل في أن (تحول الوعي) عند ماركس يفضي إلى شكل من أشكال الفعل قابل للتوقع، مثلاً التخلص من الملكية الفردية. بالمقارنة، لا ينتج عن (تحول الوعي) لدي هابرماس أي التزام بفعل قابل للتوقع.
تعليقات