اختبار الدستور الديغولي

نظمت الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية في 7 يوليوز من هذه السنة، وأسفرت عن تصدر اليسار، عبر الجبهة الشعبية الجديدة، هذه الانتخابات ب 182 مقعد، وبعده تحالف “معا” الذي يقوده حزب النهضة ب 168 مقعد، وحصد اليمين المتطرف عبر حزب التجمع الوطني المركز الثالث، بعد أن تصدر الجولة الأولى من الانتخابات في 30 يونيو، وذلك ما مجموعه 143 مقعد.
هذه النتائج التي لم تعطي لاي تكتل أغلبية مطلقة، وجعلت المشهد السياسي الفرنسي يدخل في ضبابية، ما بين اكراه احترام المنهجية الديمقراطية منذ دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958، بأن يعين رئيس الدولة شخصية من الحزب التي تصدر الانتخابات كوزير أول، وبين إكراه تدبير الألعاب الأولمبية التي لم يتبق لها سوى أقل من ثلاثة أسابيع، وبين اكره اخر هو سبل إيجاد التعايش بين رئاسة الدولة وحكومته، في ضل تنافر كبير بين الجبهة الشعبية الجديدة، وبالخصوص حزب فرنسا الابية، مع حزب النهضة الذي يقوده مانويل ماكرون.
وفق هذه المعطيات، فإن رئيس الدولة مانويل ماكرون “رفض” استقالة وزيره الأول كابريل أتال، وطلب منه الاستمرار لمصلحة الوطن، ولكن في العمق، فإن قرار ماكرون راجع لربح بعض الوقت حتى يتبين له المشهد السياسي بشكل واضح يوم 18 يوليوز، وهو تاريخ تشكيل الفرق النيابية بالجمعية العامة، وفرصة أيضا لاستغلال هذه الفترة حتى يعقد بعض التحالفات سواء مع أفراد أو مجموعات برلمانية.
إن انتخاب رئيس الجمعية العامة، هي المحدد الأخير لمآل كرسي الوزارة الأولى، هل من الجبهة الشعبية الجديدة أم من حزب يساري من داخل الجبهة (والحديث عن حزب الخضر بالأخص) وذلك بتحالف مع معسكر الرئيس أم شخصية تقنوقراطية.
فالفقرة الثانية من الفصل 9 من النظام الداخلي للجمعية العامة، تنص على أن انتخابات رئيس الجمعية العامة تتم على ثلاث جولات، فإذا لم يتحصل أي مرشح على الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى أو الجولة الثانية، يتم اعتماد الأغلبية النسبية في الجولة الثالثة.
وبالتالي، فإن انتخابات رئاسة الجمعية العامة هي التي ستهندس تشكيل الحكومة وتسمية الوزير الأول، خاصة إذا تم حسمها في الجولة الأولى أو الجولة الثانية، مما يعني وجود توافقات ومفاوضات والاتفاقات على طبيعة الأغلبية، أما الوصول إلى الجولة الثالثة، وهو ما يعني أن كل معسكر متشبث بموقفه ولم يقدم أي تنازل أو تفاوض، فيقينا سيكون مرشح الجبهة الشعبية الجديدة أي اليسار، وهو من يترأس الجمعية العامة، هو من سيقود الحكومة المقبلة.
كل هذا يطرح سؤالا، في حالة قيادة اليسار سفينة الحكومة، هل سوف يكون قادرا على تطبيق برنامجه بشكل كامل وحرفي كما أعلن عن ذلك بعيد خروج النتائج الأولية للجولة الثانية، لكل من جون لوك ميلونشون زعيم حزب فرنسا الابية وأيضا أوليفي فارو السيكريتير الأول للحزب الاشتراكي ؟
الجواب على هذا السؤال يقتضي العودة إلى حالة التقاطبات السياسية الحادة ومن جهة ثانية للدستور الفرنسي.
فالتقاطب الحاد بين التحالفات الثلاثة على المستوى السياسي والاجتماعي، تسمح بالقول بوجود ثلاث دوائر تتداخل فيما بينها في بعض القضايا بشكل ثنائي وتتنافر بشكل مطلق في قضايا أخرى، مما يسمح لليسار أن يستقطب أصوات تيار معارض له أو على الأقل تحييد أصواته ودفعه لامتناع عن التصويت.
فمثلا، في القضايا الاجتماعية فيما يتعلق بخفض سن التقاعد أو رفع الحد الأدنى من الأجور، فإنه سوف يجد من يسانده من كتلة اليمين المتطرف التي ترفع نفس المطالب، أو على الأقل تحييده أو امتناعه عن التصويت، لانه يستحيل أن يصوت ضد هذه المقترحات، مما يجعل كتلة اليسار تتفوق عدديا على كتلة الماكرونيين، وبالتالي مرور هذه القوانين.
نفس الشيء بخصوص ملفات أخرى، كالهجرة وقوانين الاتحاد الأوربي، فإن اليسار إذا لم تسانده كتلة تحالف “معا” الذي يقوده كابيريل أتال، فإنها لن تصوت ضده، وبالتالي ستكون كنلة اليسار متفوقة عدديا على كتلة اليمين وبالتالي مرور هذه القوانين.
أي استراتيجية البحث عن التقاطع مع أحد الطرفين واللعب على تناقضاتهما.
وهو ما عبر جون لوك ميلونوشون في حوار له مع قناة LCI يوم الاثنين الماضي بقوله: “فلنحترم سيادة البرلمان، وللبرلمان أن يقول كلمته بخصوص القوانين التي سوف نقدمها له، ومن يصوت ضد هذه القوانين، سوف نقولها للناس في 2027، بأنهم صوتوا ضد كدا وكدا”.
أما المحدد الدستوري، ويتمثل في المادة 49.3 التي تسمح للوزير الأول أن يمرر قوانين بمراسيم رغم معارضة البرلمان له، وهو ما عشناه مع إيزابيت بورن الوزيرة الأولى السابقة في مارس 2023 بتمرير قانون التقاعد، وبلغ عدد استعمالها لهذه المادة احدى عشرة مرة لكونها كانت فاقدة للأغلبية البرلمانية، وللاشارة فإن هذا الفصل استعمل مئة مرة من خلال 16 وزير أول منذ دستور الجمهورية في 4 أكتوبر 1958، ووصل استعماله بكثافة مع الوزير الأول مشيل روكارد في الحكومة الثانية للرئيس فرانسوا ميتران ب 28 مرة ما بين سنتي 1988 و1991.
قبل الختم، فإن كان اليسار تصدر الانتخابات بعدد مقاعد، وهو مكون من أربعة أحزاب (فرنسا الابية، الحزب الاشتراكي، حزب الخضر، الحزب الشيوعي الفرنسي)، فإن أعلى عدد المقاعد حصل عليها من خلال حزب ميولونشون، فرنسا الابية، ب 71 مقعدا، في مقابل حزب التجمع الوطني اليمين المتطرف الذي حصل على 125 مقعد، وحزب النهضة بقيادة ماكرون ب 97 مقعد، ومن حيث عدد الأصوات فاليمين المتطرف يتصدر اللائحة ب 8,75 مليون صوت، يليه الجبهة الشعبية 7 ملايين، وتحالف معا ب 6,31 مليون صوت، وهذه الأرقام تسمح ببعض القراءات المستقبلية للانتخابات الرئاسية المقبلة.
ختاما، إن الدستور الفرنسي يسمى بالدستور الديغولي، نسبة للجنرال ديغول الذي خططه بيده وعلى مقاسه كرئيس دولة، مما يمكن الرئيس الحالي ماكرون باحتياطي دستوري يمكنه الاشتغال به، ولكن هل بمقامرة جديدة مرة أخرى أم بحسابات دقيقة؟
كما أن ماهية الدستور الفرنسي يؤسس لنظام شبه رئاسي، ولكنه منحاز في ممارسته السابقة إلى النظام الرئاسي، فهل يمكن للتجربة الحكومية المقبلة أن تدفعه إلى نوع التوازن، أي نوع من البرلمانية من خلال تقوية عمل الجمعية العامة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين