الحسيمة في عمق الدولة والمجتمع

عرفت مدينة الحسيمة طيلة سبعة أشهر الماضية تظاهرات سلمية، رفع من خلالها سكان المدينة مطالب اجتماعية وحقوقية مشروعة، وخلال هذه المدة مرت مياه كثيرة تحت الجسر، ومن أجل استقرائها يمكن تقسيم هذه المدة، من الناحية البيداغوجية، الى عدة أزمنة.
الزمن النسبي لانطلاق الاحتجاجات:
الاحتجاجات التي تعرفها اليوم المنطقة ليس وليدة لحظة وفاة الراحل محسن فكري، بل تعود لتراكم رواسب كثيرة لسنوات عديدة، ويحق لكل شخص أن يختار الزمن الذي يراه مناسب حسب موقعه وحسب تخصصه.
من يهتم بالانتروبولوجيا قد يعود بنا الى أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان المغرب مقسم الى بلاد المخزن" و"بلاد السيبة"، وعلاقات السلطان مع قبائل المنطقة. وقد ينظر الفاعل السياسي الى الزمن النسبي، انطلق مع القمع الذي عرفته المنطقة سنة 1959 والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي وقعت هناك بشهادة هيئة الانصاف والمصالحة. أما الفاعل الاجتماعي، قد يرى أن يونيو 1984، هي البداية عندما نعث الملك الراحل الحسن الثاني اهل الريف "بالاوباش"، مما جعل "خدام الدولة" يبدعون في تنزيل وتفعيل ذلك "الوصف" الى أرض الواقع، من تهميش واقصاء المدينة من التنمية، وقد يرى شباب المرحلة الراهنة أن سنة 2004، حيث ضرب الحسيمة أعنف زلزال، والذي تلقى السكان بعده  عدة وعود ومشاريع لم ترى النور. وأخيرا قد يرى المنتخبون أن الاحتجاجات هي انعكاس لتأخر تنزيل مشروع "الحسيمة منارة المتوسط" منذ أزيد من سنة ونصف، وهذا التأخر هو سبب هذه الاحتجاجات.

الزمن المطلق للاحتجاجات:
يعتبر تاريخ 28 أكتوبر 2016، الزمن الذي بدأت فيه الاحتجاجات بشكل منظم ومتواثر، وهو تاريخ وفاة الشاب محسن فكري، بائع السمك، والذي تم طحنه بشكل بشع في حاوية لجمع النفايات.
الاحتجاجات التي انطلقت في مساء ذلك اليوم، ظهر فيها الشاب ناصر الزفزافي على الساحة بمخاطبته للممثلي السلطة المركزية ووكيل الملك، وركزت المطالب إبانها على فتح تحقيق شامل ونزيه لمعرفة ماذا جرى؟ ومعاقبة كل المسؤولين والمتورطين في حادثة الوفاة، وعد فيها وزير الداخلية محمد حصاد أنذاك أن التحقيق سيذهب الى أبعد مدى.
بفضل التعبأة التي عرفتها المدينة وانخراط مجموعة من السكان في التظاهرات، تطورت المطلب المتعلق بتحقيق العدالة في وفاة محسن فكري إلى مطالب أخرى ذات أبعاد اجتماعية وحقوقية، مما جعل زخم التظاهرات يتزايد ويعرف تفاعلات تجاوزت ما هو جهوي لتبلغ الى مستوى وطني واقليمي.
في مقابل ذلك، كان الرأي العام الوطني منشغل  بنتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، ومسارات مفاوضات تشكيل الحكومة وغيرها، مما جعل الفاعل الرسمي و الحزبي والمجتمع المدني لا يضع ما يقع في الحسيمة ضمن أجندته وأولوياته.

زمن التهييج:
يصعب وضع تاريخ محدد لهذا الزمن والذي انطلق أسابيع قليلة قبل 18 ماي 2017، وكانت معالمه محددة في المؤشرات التالية:
§  انخراط مجموعة من وسائل الاعلامية الورقية والاليكترونية في نعث ما يقع في الحسيمة بالفتنة، أجندة خارجية، تمويلات أجنية، مؤامرة انفصالية ...
§  صدور تصريحات عن زعماء احزاب الاغلبية الحكومية، أعقبه بلاغ مشترك، مفاده أن الدولة لن تتساهل مع خرق القانون فيما يتعلق بالتجمع والتظاهر، وأن هناك عناصر لها ارتباطات بأجندة خارجية وانفصالية.
§  وضع تعزيزات أمنية جد مشددة، وحضور كثيف لمختلف أنواع الامن والدرك والجيش وتمركزها بمدينة الحسيمة استعدادا لمسيرة 18 ماي.
وهي كلها مؤشرات توحي بأن المسيرة ستمنع وسوف يتم تفكيكها بالقوة وتحت الغطاء السياسي لأحزاب الاغلبية الحكومية وبتهييج لوسائل الاعلام.

أسبوع التوازن والترقب:
خلال اليومين قبل مسيرة 18 ماي، يمكن القول بشكل عام "مياه كثيرة مرت تحت الجسر"، وفي ظل غياب معطيات يصعب التكهن حول ما جرى، ولكن يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
§  مرور رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان على القناة الاولى في برنامج ضيف الأولى، والذي سجل أن التظاهرات 99 في المائة منها سلمية ومشروعة وأن المجلس سيتدخل اذا وقعت انتهاكات حقوق الانسان؛
§  طرحت اللجنة الجهوية لحقوق الانسان بالحسيمة لمبادرتها في لعب دور الوساطة على جميع الاطراف؛
§  تحول استراتيجي في وسائل الاعلام وصدور تصريحات من المتظاهرين بكون المسيرة هي ضد تصريحات احزاب الاغلبية التي وصفتهم بالانفصال؛
§  مرور مسيرة 18 ماي بشكل سلمي وحضاري ودون تدخل للأمن بدون وقع أي خسائر؛
§  تراجع أحزاب الاغلبية عن تصريحاتها وتأكيدها على مشروعية مطالب ساكنة الحسيمة؛
§  وصول وفد وزاري مكون من سبعة وزراء من أجل الاستماع للساكنة والاستجابة لمطالبها؛
§  عقد وزير الداخلية اجتماع مع ممثلي السلطة والمنتخبين، وبداية كلامه بكونهم "نحن هنا بتعليمات ملكية"؛
§     اطلاق مباراة التوظيف لشباب من مختلف المستويات وفي عدة مناصب؛

جمعة خلط الاوراق:
قام ناصر الزفزافي بتاريخ 26 ماي 2017 بإيقاف امام مسجد محمد الخامس أثناء صلاة الجمعة، بدعوى أنه استفز مشاعر المصلين بخطبته حول "الفتنة والاستقرار"، هذا الحادث كان كافيا لتتغير مقاربة الدولة في تعاطيها مع الاحتجاجات، والعودة الى المقاربة "المفكر فيها" ما قبل "مسيرة 18 ماي"، أي التدخل الامني، واستعمال القوة في فظ التظاهرات وصلت أحيانا الى المس بحرمة المنازل، وأيضا الى الاعلان على سلسلة من الاعتقالات الجماعية لقيادات التظاهرات، أسفرت عن اعتقال العشرات منهم ومن بينهم ناصر الزفزافي.
المقاربة الجديدة- القديمة دفعت بعدة نشطاء في مجالات متعددة، سياسية واجتماعية وحقوقية، إلى الدعوة الى الحوار وتصفية الاجواء.

لعبة الشطرنج:
ترتكز لعبة الشطرنج على اللعب بكل الاحجار داخل الرقعة من أجل الانتصار، ويبقى تحريك "الملك" في حالات الخطر والحالات الاستثنائية التي يكون فيها النظام يتعرض لانهيار كامل.
يأتي سياق هذا المثال، في بعض الدعوات التي تدعو الملك الى التدخل المباشر لحل الازمة في الحسيمة، وفي هذا الصدد فإن هذه الدعوات وإن كانت صادقة على المدى القصير، إلا أنها تكرس لمزيد من الملكية التنفيذية على حساب مؤسسات دستورية أخرى، كرئاسة الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية الجادة والمسؤولة، ومؤسسات الادارة الترابية من جماعات محلية واقليمية وجهوية.
إن أحجار الشطرنج  بخصوص ما يقع في الحسيمة متعددة:
§  المبادرة الرسمية لمؤسسة جهة طنجة الحسيمة، والتي تدعو للحوار حول مستقبل المدينة ومستقبل الجهوية بالمغرب، وسؤال العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية في باقي مدن المغرب.
§  إعمال اليات الوساطة المؤسساتية وغير المؤسساتية، والتي تقتضي العمل في مناخ من الثقة والتدابير المواكبة لها، كاطلاق سراح المعتقلين، ومراجعة المقاربة الامنية.
§  تأكيد لدور الحكومة باعتبارها تعبير عن صناديق الاقتراع تحملها لجزء كبير جدا من المسؤولية فيما وقع ونفس الحجم من المسؤولية في البحث عن الحلول تحت مراقبة البرلمان.
§  وأخيرا، التفكير الجماعية في حل أزمة الحسيمة بخطين متوازيين، جبر الضرر المعنوي للمدينة وسكانها، من خلال الاستجابة لمطالبهم وفق مقاربة شاملة ومتكاملة وليس مجرد تدابير ادارية وإجرائية متفرقة هنا وهناك، ومن جهة أخرى دمقرطة الدولة، بالعمل على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفتح تحقيقات حول تعثر المشاريع التنموي المعلن عنها سابقا، والحد من الافلات من العقاب،  وحكامة محلية، والتسريع باصدار النصوص التنظيمية لاقرار حقيقي وفعلي لمفهوم الجهوية الموسعة، وتعميم "النموذج المقدم" على باقي جهات المملكة وفق عدالة اجتماعية وعدالة مجالية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين