مدن على صفيح ساخن
تعرف مجموعة من المدن المغربية احتجاجات وحركات اجتماعية غير مسبوقة في
تاريخ المغرب الاجتماعي، ديناميات تنطلق من الهامش مثل لعبة الدومينو، حيث لا
يوجد عقل منطقي قادر على التنبؤ عن المنطقة المقبلة القابلة للاشتعال، فتجدها في
الشمال مثل "بني بوعياش" أو في الوسط مثل "بني ملال" أو
الجنوب في "سيدي إيفني" وغيرها "كتازة" و"إمضير"
ومناطق متفرقة هنا وهناك.
الخيط الناظم بين هذه المناطق هي أن كرة الثلج تدحرجت وبدأت تكبر مع تنامي
مطالب الساكنة المشروعة في تحسين الوضعية الاجتماعية و المطالبة بتجويد الخدمات
العمومية.
من ذلك أن هناك مجموعة من المدن تنتظر دورها لتشتعل بمطالبها الخاصة ولكن
يبقى أن الوضع ككل تتقاسمه مجموعة من الدواعي للخروج للشارع بعد انسداد قنوات
التواصل مع الدولة، فالطلب الاجتماعي اليوم أصبح أكبر من العرض المؤسساتي، مما
يقتضي التنقيب في الأسباب الخفية والكامنة عوض التعاطي مع الأسباب على شكليتها
وسطحيتها.
وفي هذا الإطار أتناول مدينة محددة كموضوع حالة يمكن أن يؤسس لقوانين أو
قواعد تسمح بفهم السلوك التعبيري عن المطالب من خلال اللجوء لاحتلال المجال
العمومي.
مدينة "الخميسات" تبعد بحوالي 80 كلم عن الرباط العاصمة الإدارية،
و60 كلم عن مكناس العاصمة الإسماعيلية، وتعداد ساكنتها تصل إلى 106000، ومجال قروي
يصل إلى 830500 هكتار.
تبدو المدينة هادئة وساكنة ليلا وحركية دائمة نهارا، هدوء بقدر ما يريح فهو
يقلق وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، ولكن المدينة عموما تعطي فرصة قراءتها من
زوايا مغايرة لما تبدو عليه بشكل عام.
أولا: فئات اجتماعية صاعدة
يهيمن على المدينة البعد القروي، حيث يثير أي عابر سبيل، وكأنه داخل سوق
أسبوعي قروي كبير، ويعود ذلك لامتداد المجال القروي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على
التساقطات المطرية، في مقابل غياب المرافق الاجتماعية والحيوية في البوادي وفي ضل انسداد أفاق العالم تعرف المدينة
هجرة "من الأرياف"، لتستقبل يوميا ألاف الشباب العاطل أو الباحث عن قضاء
حاجاته الإدارية، فحضور هذه الفئة الاجتماعية في ظل عدم وجود آليات الاستقبال تسمح
بظهور انفلاتات أمنية وارتفاع نسبة الجريمة.
من جهة أخرى تتواجد في المدينة طبقة متوسطة مهمة، تعتمد على الوظيفة
العمومية موردا هاما، تجد صعوبة في التكييف مع المحيط البدوي، في ظل غياب مرافق
انسانية تلبي حاجياتها المعنوية والنفسية عوض مرافق الاستمرار البيولوجي للفرد من
مأكل ومشرب ونوم.
هذه الفئات الاجتماعية الصاعدة تتصادم مع الواقع الذي لا يجيب عن حد أدنى
من القضايا المعيشية اليومية.
ثانيا: مجتمع مدني منخور
تعرف المدينة نسيج من الجمعيات "المدنية"، يكاد حجمها الكمي
يفاجأ أي ملاحظ، وباعتبار أن المجتمع المدني يتموقع في فضاء عمومي ما بين المجتمع
والدولة، فهو يلعب دور المحامي للساكنة أمام السلطات العمومية ودور الشريك لهذه الأخيرة
في التنمية المحلية والوطنية، وبمسح شامل للجمعيات المشتغلة في قضايا الطفولة
والشباب والتنمية وغيرها بالمدينة يتأكد لجوء السلطة إلى تدجين الجمعيات، التي
تحولت إلى باحثة عن ريع محلي، على حساب فقدان شرعيتها ومشروعيتها لدى الرأي
المحلي، إما من خلال مشاريع محلية محدودة وتعتمد على الزبونية والمحسوبية أو
جمعيات وجدت في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية اغتناء شخصي ومصالح ذاتية، إلا النزر
القليل جدا من الجمعيات التي بقيت صامدة من إغراءات أو التضييق من قبل ممثلي
السلطات المنتخبة أو السلطات المركزية.
دور الجمعيات المدنية لا يقتصر على تنشيط وبرمجة لقاءات محلية في مواضيع
مختلفة ولكن دورها الكامن والخفي يتمثل في لعب دور صمام أمان للشأن العام المحلي،
ووسيط بين الفرد المواطن والمؤسسات العمومية من أجل ضمان "النظام العام"
والتنظيم، ومواكب للمشاريع التنموية من موقع المدني وليست مجرد "ذيل"
انتخابي أو إداري.
ثالثا: أولغارشية النخبة المحلية
من أواخر تسعينات القرن الماضي، تتواجد بالمدينة نخبة واحدة تقوم بتوزيع الأدوار
والمواقع، مشكلة تحالفات بين المال والمواقع الانتخابية والمصالح الإدارية، فثلاثة
دواء أولغارشية تحتكر تدبير الثروة المحلية، من خلال الانغلاق عن ذاتها ولا تسمح لأي
تداول أو ولوج لفاعلين جدد في إطار نوع من البوليغارشة.
جمع الثروة مع التدبير الشأن المحلي، خلق نوع من التباعد بين الساكنة
والوحدات الترابية المحلية، واعتبر كل مرفق عمومي ما هو إلا مطية لنهب خيرات
المنطقة وليس "مرفق " الخدمة العمومية.
هذا الاحتكار تصرفه الساكنة على مستويين: الأول بالعودة للنزعة القبلية وللأصول
الامازيغية باعتبارها الضامنة والحامية من هيمنة "الوافدين" من "الريف"
أو "العروبي". ومستوى ثاني يكمن في الحقد الاجتماعي على كل مشاريع
السلطات المحلية وتنصيب شماعة فشل برامج حكومية على مدبري الشأن المحلي، وتعليق الأمل
والخلاص من الوضعية المتدهور فقط في زيارة "ملكية".
رابعا: حكامة محلية ترقيعية
لا بد هنا من التمييز بين الحكامة المحلية الهادفة إلى نوع من التنمية
المحلية، والتدبير اليومي للشأن المحلي، فالمدينة تعرف فقط الثاني في غياب أي
مبادرات تنموية يمكن أن تكون انطلاقة نحو تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي والحد
من الهشاشة الاجتماعية، فمجموعة من البرامج التي تسعى السلطات المحلية أو المنتخبين
من أجل تنفيذها على أرض الواقع لا تغدو أن تكون ترقيعات للوضع، حيث يزداد الطلب
الاجتماعي والمدني بشكل متسارع في مقابل عروض عمومية محدودة لا تنسلخ عن توقيع بعض
العقود الإدارية أو التأشير عن بعض الرخص.
فكانت مهزلة برنامج إعادة الهيكلة التي عرت الإدارة السياسية للخروج
بالمدينة من عنق الزجاج، حيث تم رهن مستقبل المدينة وساكنة على ما سوف يأتي من
السماء أو للتقلبات الإقليمية والوطنية.
خامسا: تهميش اقتصادي واحتقان
اجتماعي:
تعتبر المدينة غنية فلاحيا، وبنية اقتصادية مؤهلة بامتياز، لعدة اعتبارات
منها الموقع الجغرافي والقرب من المدن الإستراتيجية في الدولة، ومنها ما هو مرتبط بالموارد
البشرية بوجود كثلة كبيرة من الشباب العاطل وحاملي الشهادات العليا، إلا أن
المعنيين بالشأن المحلي بقدر ما يحاولون قتل أو كبح أي مبادرة تنهض بالوضعية
الاقتصادية فهم أيضا يصفون حساباتهم مع كل المشاريع السابقة، كمثال على ذلك بوجود
منطقة صناعية قابلة لاستقطاب المستثمرين الأجانب أو دعم المستثمرين المحليين فقد
تم تحويلها بقدرة قادر إلى منطقة سكنية وقاعات للحفلات.
يخلق هذا الوضع نوع من الاحتقان لدى الساكنة وما يتولد عن ذلك من انفلاتات
أمنية خطيرة بدأت تعرفها مجموعة من النقط السوداء بالمدينة، وغياب ضبط أمني لمعدل
الجريمة التي تأخذ أشكال متعددة من منظمة على شاكلة عصابات إلى زنا المحارم وقتل الأب.
على سبيل الختم:
على مستوى السكان بدأ تكريس مقولة أبناء المنطقة، التي تتبعها مقولة خيرات
بلادنا تكفينا، وعلى المستوى المؤسساتي هشاشة وضعف آليات التمثيلية والوساطة "المدنية"
والمنتخبة، يجعل تسونامي المطالب والاحتياجات يوجه مباشرة لصناع القرار العمومي
الوطني.
المدينة على واقع انفجار كبير، فبرميل الغاز ممتلئ عن أخره يحتاج فقط لعود ثقاب
واحد، من ستكون هذه الشرارة، ننتظر لعبة الدومينو...
تعليقات