100 يوم من "صراع القيم" في حكومة "بنكيران "


أنهت حكومة "بنكيران" مائة يوم على تنصيبها وأكثر بقليل من ذلك على تعيينها، وبدأ تقييم الأداء والحصيلة ومساءلة الالتزامات التي تقدمت بها في التصريح الحكومي، ومحاسبة برامج الأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي خلال الانتخابات 25 نونبر 2011.
وفي هذا الإطار يمكن تقديم ملاحظات أولية:

الملاحظة الأولى: أن أي تنقيب في حصيلة الأداء في المرحلة الراهنة، لن نصل إلى أي معطى جديد، باعتبار أن الأداء الحكومي يختزل في نقطتين محوريتين الأولى وهي الإنتاج التشريعي والتنظيمي، والثانية من خلال السياسات العمومية المنجزة أو على الأقل المتوقع إنجازها.
 بخصوص النقطة الأولى الحكومة الحالية لازالت تقتات من المشاريع والقرارات التنظيمية التي سبق تقديمها في حكومة "عباس الفاسي"، كما أن الإجراءات التي اتخذها وزراء الحكومة الحالية لا تنسلخ عن تدابير سابقة في إطار استمرارية المرفق العمومية.
أما بخصوص النقطة الثانية ففي تحاليل السياسات العمومية، يرتكز الشرط الأول حول الغلاف المالي المخصص لانجاز المشاريع والأنشطة، باعتبار تقييم التكلفة المالية هي العمود الفقري في أي سياسة عمومية ما، ومادام القانون المالي لم يصدر بعد، فيمكن القول أننا اليوم أمام "نوايا" وليس أمام "سياسات عمومية".

الملاحظة الثانية: وتتعلق بكون حصر حصيلة الحكومة الحالية في تدبير الشأن العام الوطني، هو نوع من التضليل بحكم أن الحكومة الحالية، تشتغل وفق أدوات وآليات عمل لم تؤسس بعد أو في إطار تنزيلها كما حددها دستور 2011، وبالتالي فمهمتها تتجاوز سقف الحكومي للقول أن الحكومة الحالية على عاتقها بناء الشق المؤسساتي للدولة.
وفي هذا الإطار فمن خلال مسح شامل على تجربة حكومة "بنكيران" يمكن الحديث عن مستويين، مرتبطين معا بالسياق العام المتمثل في الحراك العربي والمغاربي وبالسياق الخاص بإقرار دستور فاتح يوليوز.

أولا: على مستوى السياق العام
عرفت المنطقة العربية والمغاربية حراكا اجتماعيا يطالب بالعدالة الاجتماعية والحرية، فمنها من أسقط بأنظمة عتيدة في الديكتاتورية ومنها من لازال يحاول، ومنها الحالة المغربية التي اتسمت بنوع من الإصلاح في ظل الاستمرارية.
ولكن يبقى الخيط الناظم بين جميع التجارب هو هيمنة "الصوت القادم من الجنوب" المجسد في الحركات ذات المرجعية الدينية، مما أدى ببناء الدولة على أساس صراع القيم أكثر من كونه على أساس مشاريع مجتمعية متكاملة.
وفي المغرب تجسد وصول رفاق "بنكيران" لتدبير الشأن الحكومي، تحدي بالنسبة للمؤسسة الملكية المحتكرة دائما للحقل الديني، وفي نفس الوقت تحدي للقوى الديمقراطية والحقوقية من أجل الحفاظ على المكتسبات التي حققتها خلال العشرية الأخيرة.
وفي هذا الإطار، فالخطاب الجديد الذي حمله رفاق "بنكيران" يقوم على بعد أخلاقوي أكثر منه سياسي، ففتحت ملفات ولوائح متعددة كنوع من إعطاء الموعظة والإرشاد للحكامة التقنوية، وليس كحكامة راشدة، كما تدعي بذلك حكومة "بنكيران".
فكانت على سبيل المثال معركة "دفاتر التحملات" التي تريد منها الحكومة "ضخ" قيم جديدة في الإعلام العمومي على المستوى الشكل من خلال الاستقلالية والنزاهة والحرفية ولكن بتوجيه إيديولوجي على مستوى المحتوى قائم على المرجعية الدينية، بل وصل أحيانا إلى نعث كل من يعارض مشروع "دفاتر التحملات" بالإلحاد والعلمانيين المعاديين للإسلام المتأمرين من قبل نائب برلماني.
فمعركة "دفاتر التحملات"، ليست معركة سياسة عمومية إعلامية، ولكنها معركة "قيم" من خلال الانتقال من الهيمنة التسلطية (المخزنية) للدولة عليه، إلى الهيمنة الاستبدادية (المحافظة) للإسلاميين عليه، فكان الفخ الذي سقط فيه كل داعي لتحرير الإعلام ودمقرطته اختيار أحد الأمرين أحلاهما مر، وذلك أما العجز وعدم القدرة على إنتاج بديل ثالث للإعلام.
دفاتر التحملات كمثال يمكن إسقاطه على باقي الملفات من قبيل لائحة "لاكريمات" والجمعيات المستفيدة من الدعم، والصراع حول المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان والإشارات المبطنة بخصوص المجلس الوطني لحقوق الإنسان من قبل الأذرع الحقوقية لحزب العدالة والتنمية وغيرها.

ثانيا: على مستوى السياق الخاص
ويتمثل هنا بالأساس في المهمة الأولى لحكومة "بنكيران" وهي تنزيل وتفعيل مقتضيات الدستور الجديد، وذلك على أساس إخراج مجموعة القوانين التنظيمية والمؤسسات الوطنية ومؤسسات الحكامة إلى حيز الوجود.
فاتسمت هذه المرحلة بنوع الصراع بين أنصار الطابع الشبه البرلماني على الدستور الجديد، وبين أنصار الطابع الشبه الرئاسي عليه.
وهذين المستويين مرتبطين بالتواثب التي أقرها الدستور وخاصة ثابت "الدين الإسلامي" وثابت "الخيار الديمقراطي"، حيث يتم رفع الشارة الحمراء بخصوص كل نقاش متعلق بالحريات الفردية وحقوق المرأة بمقولة "مالا يتعارض مع ثوابت الأمة، وعلى رأسه الإسلام أسمى مرجع للهوية والخصوصية المغربية"، في حين يعتبر التيار الآخر أن القيم الديمقراطية القائمة على التعددية والمساواة والعدالة هي الأصل وخاصة أن الديباجة الدستورية "تقر بالتزام الدولة المغربية بمنظمتي القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني".
وإن كان هذا النقاش المرجعي لا يظهر بشكلي جلي بين أنصار الملكية البرلمانية والملكية التنفيذية، ولكنه ظهر بشكل واضح من خلال النقاش حول قانون "ما للملك للملك وما لبنكيران لبنكيران"، والمتعلق بالوظائف العمومية، فإن كانت حكومة بنكيران من الناحية النظرية هي التي يجب أن تدافع عن توسيع صلاحيات التعيين لرئيس الحكومة في مقابل تقلصيها هذا المجال بخصوص الملك، لا حظنا العكس، أن المعارضة هي التي تطالب بتوسيع من صلاحيات رئيس الحكومة في مقابل تحديد مجالات ضيقة جدا لتدخل الملك، فكانت "المعارضة البرلمانية المدافعة على عرش الحكومة".

على سبيل الختم:
المرحلة التي نعيش، هي مرحلة صراع القيم والمرجعيات، ولن تكون مرحلة سياسات عمومية أو مرحلة تدبير حكومي يومي.
حكومة "بنكيران" تحتكر الرأسمال الرمزي والخطاب الاخلاقوي، والدولة لازالت متواجدة تقنوقراطيا في مراكز الإدارة، والقوى اليسار والديمقراطية في سباة عميق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقارنة شكلية بين دستوري 2011 و1996

نظام الحكم في المغرب

قراءة في كتاب دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، لحسن طارق وعبد العالي حامي الدين