البام ... عاد إليكم من جديد
طل علينا حزب الأصالة والمعاصرة خلال هذا الشهر من نافذة مؤتمره الاستثنائي المنعقد بتاريخ 17، 18، 19 فبراير، ليتحفنا بمرجعيته "الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة" و"الديمقراطية الداخلية" والوجه الحسن ل"أمينه العام الجديد".
حزب الأصالة والمعاصرة الذي اختار يوما على ميلاد "حركة 20 فبراير" ليس عبثا أو صدفة، حيث كانت للحركة دور حاسم في تحوير مسار الحزب، إذ رفع مئات الشباب لافتات في الشارع العام تطالبه ب"الرحيل" من المشهد السياسي، باستهداف مباشر لمؤسسه "فؤاد عالي الهمة" ومهندسه "إلياس العمري".
معلوم أن التاريخ لا يرحم، فالعودة لسياق تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، جاء كبديل "وسيط" و"ممثل" مؤسساتي للدولة داخل المجتمع من أجل تنزيل المشروع "الحداثي الديمقراطي" على الطريقة المغربية، بدون الحاجة إلى دعم الأحزاب الوطنية والديمقراطية، بل تماهى الوضع إلى تنصيب "البام" نفسه وصي على هذا المشروع، والممثل الوحيد والشرعي للدولة على أرض المجتمع، في حين أن الأصل أن الأحزاب السياسية الديمقراطية تتنافس وتتدافع لتكون من ضمن أحزاب أخرى ممثلة شرعية للمجتمع في سماء الدولة.
تأسس الحزب ليجد نفسه مسيج بمجموعة من الميكانيزمات الانتخابية ذات "صبغة" مغربية، تقتضي بالضرورة التسلح بالأعيان والوجهاء وأحيانا استعمال وسائل الدولة والدعاية المجانية ل"حزب صديق الملك" لاستمالة أصوات الناخبين، مستفيدا من تجربة الانتخابات الجزئية سنة 2008، ليستطيع "التراكتور" حاصد الانتخابات الجماعية 2009.
بداية "الحلم الأسود" سرعان ما اضمحل بفعل نور 20 فبراير، وتراجع حزب "الأصالة والمعاصرة" بخطوة للوراء، إلى غاية الذكرى السنوية للحراك الشبابي المغربي في شكله العشريني ليعلن مؤتمرا استثنائيا للحزب.
المؤتمر الاستثنائي لحزب "الأصالة والمعاصرة" يأتي في سياق عام استثنائي وسياق خاص هو الآخر استثنائي، فالسياق العام عرف دستور جديد بعد الحراك الشبابي، وانتخابات سابقة لأوانها، وفوز حزب العدالة والتنمية برئاسة الحكومة، وسياق خاص ارتبط أساسا كما دائما بالنسبة لحزب "الأصالة والمعاصرة"، باسم "فؤاد عالي الهمة" حيث دخل لمربع مستشاري الملك وانسحابه من تدبير التنظيمي للحزب.
ويمكن أن نسجل ثلاثة نقط أثارت الحدث في التجربة الجديدة "للأصالة والمعاصرة" ما بعد "فؤاد علي الهمة"، تكمن أساسا في الوثيقة المرجعية، وحيث لا يسعفنا مناقشتها كليا، سنقتصر فقط على مصطلح " الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة"، والنقط الثانية ترتبط أساسا بالبراديغم الديمقراطي الذي عاشه الحزب، وأخيرا الوجه الجديد الذي استعار لأجله الأمين العام السابق للحزب "الشيخ بيد الله" وصفا من عبد الكريم غلاب "دفن الماضي ".
أولا على مستوى المرجعية: الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة
اعتبر "إلياس العماري" رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي لحزب "الأصالة والمعاصرة" أن الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة هي: " بوصلة الحزب التي تنفتح على الاجتهادات الأخرى٬ ومذهبا عاما يحكم الممارسة السياسية داخل هذه الهيئة ... الأمر الذي يستوجب إقامة المسافة الضرورية إزاء أحكام القيمة المطلقة واليقينيات الجاهزة التي تكتفي بتقديم أجوبة مصاغة قبلا٬ منتمية إما إلى المنظور الليبرالي أو المنظور الاشتراكي. وتقطع الوثيقة الشك باليقين فتعلن صراحة أن المنطلق الذي يؤسس للمرجعية الفكرية لحزب الأصالة والمعاصرة هو الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة وليست الديمقراطية الاجتماعية المنغلقة٬ المكتفية بالجمع الانتقائي بين الليبرالية الديمقراطية والاشتراكية الجديدة"
فهذا التقديم السفسطائي الذي يفسر كل شيء ولا يفسر أي شيء، تعريف أجوف من الداخل، يغريك بالمرادفات المستعملة ولكن فارغ من حيث المحتوى والمضمون، فالمتتبع يتيه منذ الوهلة الأولى، فهو يدفع بالابتعاد عن منطق الإيديولوجية، ليبرالية كانت أم اشتراكية، وفي نفس الوقت هناك ديمقراطية اجتماعية منفتحة في مقابلها أخرى منغلقة، وان الاختيار تم على الأولى لأنها تأخذ فقط الايجابيات مما تطرحه الليبرالية الديمقراطية من جهة والاشتراكية من جهة أخرى.
للهرب من هذه الخلطة، أطرح مفهوم أخر كانت إشارة خاطفة في حوار للمعني بالأمر نفسه "إلياس العماري" مع يومية الصباح (18 فبراير)، وهو "الخيار الثالث" أو "الطريق الثالث".
للعلم أن "الخيار الثالث" جاء كبديل جديد وسطي بين الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الاجتماعية، والتي ظهرت في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي مع الاقتصادي السويدي "أركي شيلد" الذي كان يبحث عن نوع من التوفيق بين السوق الحر المفرط في الرأسمالية والتضامن الاجتماعي المستقي من الفكر الماركسي.
وقد عرفت هذه الأطروحة في بداياتها قبولا من قبل مفكرين الذين لا يقبلون بوجود سقف للأيديولوجي أو حد أدنى لها، وخاصة لدى الرواد الأوائل للمدرسة النقدية "فرانكفورت" في جامعة "غوته"، "على يد هوركهيمر"، التي لم تستغ كيف للفكر الماركسي الإنساني الداعي لتحرير الإنسان، يلد أنظمة "توتاليتاريا" حسب " حنة أرندت"، وكيف لاقتصاد السوق الحر غير محمي من الأزمات المالية يعرف انهيار 1929.
"الخيار الثالث" كجسر بين الاشتراكية في أوروبا المقدسة لمبدأ العدالة من خلال الإيديولوجية الشيوعية، والليبرالية المقدسة لمبدأ "دعه يعمل دعه يمر" عرفت نوع من الدمج في مرجعيات الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية سواء في ألمانيا أو في إيطاليا أو فرنسا أو انجلترا، كما عرف انتشار كبير لدى أحزاب الوسط، التي أصبحت تنعت ب"الوسط الجديد". وقد أخذت به بشكل خاصة الدول الاسكندنافية.
ومن أهم مرتكزات "الخيار الثالث" يقوم على تقوية البعد الوطني لاقتصاد الدولة على حساب هيمنة الإيديولوجية على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وربط عائدات منظومة الخوصصة بالقضايا والقطاعات الاجتماعية.
ويبقى المرتكز الأساسي الذي حاولت ورقة حزب "الأصالة والمعاصرة" الإجابة عنه وهو تبنى برامج ومشاريع براغماتية وتطور القدرات التوزيعية للدولة تجتذب من خلالها إليها الأجيال الصاعدة، وتقديم أجوبة للسياسات العمومية عبارة عن حلول للطبقة المتوسطة.
ولكن يطرح تساؤل بخصوص الوضعية المغربية، تبني "للأصالة والمعاصرة" "للخيار الثالث" الذي اصطلح عليه ب " الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة" ما يلي:
§ هل نحن في حاجة إلى مراجعات إيديولوجية من هذا الحجم أم إلى تحرير الحقل الحزبي من هيمنة وضبط الدولة باعتماد أسلوب الحزب الاغلبي وحزب الدولة؟
§ هل المراجعات الفكرية في المغرب حاجة ضرورية معيشية أم أنها تبقى محصورة في ترف فكري غير مدرج في حتى أجندة الانتلجانسية المغربية أو نخبه السياسية؟
§ كيف للمغرب أن يقفز إلى تبني مرجعية إيديولوجية متقدمة، في حين أنه لم يستطع منذ استقلاله على استلهام ولو مرجعية واضحة وثابتة واحدة، فهو لم يأخذ من الليبرالية إلا الجوانب السلبية في تحرير السوق، ومن الاشتراكية إلا ما يخدم استمرار انتظارية الطبقات الاجتماعية؟
§ كيف يمكن الحديث عن رأسمال وطني، في حين البنية الاقتصادية المغربية متخمة باقتصاد الريع والامتيازات، وشركات العائلات، ومديونية خارجية وداخلية مرتفعة، وغياب أحزاب سياسية قوية قادرة عن تبني برامجها المجتمعية، ومجتمع مدني يربط قوته وحضوره بالدعم الخارجي للمؤسسات الدولية المانحة؟
§ كيف للحقل الحزبي الذي لم يصنف يوما في المغرب على أساس إيديولوجي بقدر ما كان تصنيف تجسيدا للصراع مع الدولة حول بنية الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، فكان التصنيف ما بين أحزاب "الحركة الوطنية" و"الأحزاب الإدارية"، أن يفرض عليه فوقيا الاصطفاف الإيديولوجي؟
§ التحولات الاجتماعية وحتى السياسية مع صعود التيارات الإسلامية، واختراقها للمؤسسات التمثيلية وهيمنتها على الاحتجاج في الشارع، ألم يعد الاصطفاف يفرض نفسه اليوم أكثر على أساس من مع "الحداثة والتقدم" ومن مع "المحافظة والخصوصية"، من داخل مقاربة حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية؟
ثانيا: على مستوى الديمقراطية الداخلية
يحاول حزب "الأصالة والمعاصرة" أن يطل علينا ب"التنظيم الجيد" لأشغال مؤتمره، وللديمقراطية الداخلية التي عاشها طيلة ثلاثة أيام، وكأننا أمام "برايغم" جديد يصدر لباقي الأحزاب الأخرى من أجل الاقتداء به، ويبقى السؤال المركزي كيف لبعض الجرائد الاليكترونية أن نشرت اسم "الأمين العام الجديد" قبل انعقاد المؤتمر؟
ليس كل محبي ومشجعي "البارصا" أو "ريال مدريد" (حتى أبقى في حيادي ولا أصنف على أساس رياضي) يتقن لعب "كرة القدم"، وليس كل معلق رياضي هو بالضرورة رياضي، فكم من ديمقراطي لا يمارس الديمقراطية، وليس بالضرورة كل من يمارس الديمقراطية هو في الاصل ديمقراطي.
الديمقراطية الداخلية في جوهرها هي التدبير الجماعي للشأن التنظيمي وليس استجابة جماعية لإرادة "مهندس" خفي، والحكامة الحزبية تقتضي بالضرورة التنافس والصراع السلمي وبالأدوات المشروعة من أجل بلوغ مراكز اتخاذ القرار، وهي تتناقض تماما مع الريع الحزبي وضبط التوازنات بين "الصقور" من الأعيان و"الحمائم" من بقايا اليسار الجديد، أو امتيازات للشباب والنساء ك"ديكور" في "بلاطو" الأجهزة التنظيمية، بل يأخذ الانتساب للأجهزة بعد سوسيولوجي وسياسي للمشروع المجتمعي للحزب، وتحويل المطالب والاختيارات وحتى المقاربات إلى جزء من التدبير اليومي للحزب وللشأن العام المحلي والوطني.
ثالثا: على مستوى القيادة الجديدة
مرجعية جديدة، ديمقراطية داخلية، وقيادة جديدة، تتقاطع مع الماء والخضرة والوجه الحسن.
السيد "مصطفى الباكوري" كأمين عام جديد لحزب "الأصالة والمعاصرة"، يحمل رأسمال رمزي مهم جدا في مجال التدبير والتسيير، يأتي ليجيب على رهانين أساسيين للحزب:
تعليقات