20 فبراير و"التعاقد السياسي" الجديد
20 فبراير و"التعاقد السياسي" الجديد
يمكن تعريف "التعاقد السياسي" حسب بعض أدبيات العلوم السياسية، بأنه اتفاقية علنية، ولكنها ليست دائما موضحة أو مبررة علنا، بين مجموعة مختارة من الأطراف، تبتغي تحديد معنى القواعد التي تحكم ممارسة السلطة على أساس ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية للأطراف المشاركة في التعاقد... هناك في صميم التعاقد حل وسط متفاوض عليه يوافق الأطراف بموجبه على التخلي عن قدرتهم في الإضرار باستقلالية الأطراف الأخرى في الاتفاقية أو مصالحهم الحيوية، أو على التقليل من استخدام هذه القدرة وبالتالي ف"التعاقد السياسي" على هذا الأساس ليس ائتلافا يهدف إلى عرض "معروضات سياسية " بل هو يقدم شروط مسبقة لهذه المعروضات المختلفة لكي تكون ملتزم بها وان تكون متوافقة بعضها ببعض إلى حد يجعلها من قبل الأطراف الأخرى المقبولة، لا تهدد مصالحهم، وأن لا تخرج عن "القواعد الديمقراطية".
أما دينامية 20 فبراير، فمن الناحية النظرية فهي حاولت أن تلملم تيارات مختلفة في حد ذاتها من أجل بناء نموذج مزدوج أساسه أن المواطنة بكونها مجموعة من الحقوق والواجبات يلزم منحها لكل فرد من الأفراد لكي يستطيع اتخاذ خيار فردي و الاشتراك في عملية اتخاذ قرارات جماعية، و أن الديمقراطية هي عملية يتم من خلالها تطبيق المواطنة على المؤسسات السياسية التي كانت تسير فيما قبل على أساس مبادئ أخرى استبدادية، أو في حد أدنى توسيع الاحتجاج ليضم أشخاص لم يكونوا يتمتعون بالمواطنة سابقا، أو اختراق مؤسسات مثل المؤسسة الملكية والجيش وكسر طابوهات مثل طقوس البيعة وتقبيل اليد التي لم تكن من قبل موضوعا للمشاركة تفرضها المواطنة .
إلا أنه في أي "ميثاق سياسي" فقواعد الديمقراطية تتمثل في البعد الشرعي- التنظيمي أي الوجود الشرعي للأحزاب و الجماعات الضاغطة وإدماجها في نظام دستوري مشروع ومتوافق عليه. وهي بعد يمثل قيمة قياسية للتعددية التي تقع في صلبها، أي عدم تمتع حزب واحد كم هو الشأن بالنسبة لحزب الأصالة والمعاصرة، أو مجموعة بمفردها بالانفراد بالحقيقة السياسية حيث فضحت حركة 20 فبراير جزء من رموزها برفع صورهم أو شعارات تهتف بأسمائهم في المظاهرات والاحتجاجات، وهي شيء يؤدي حتما إلى تعدد، يقوم على التسامح والقبول بحكم الأغلبية و الحكومة المقيدة وحماية الحقوق والحريات الأساسية. .وهي بعد من أبعاد السلطة، أي اقتسامها داخل النظام وظهور مراكز قوى مختلفة ومسؤولية أصحاب السلطة أمام ممثلين منتخبين وأمام الرأي العام.
ومن نافلة القول أن حركة 20 فبراير عموما طرحت تساؤلات عدة على فرضية التعاقد السياسي بالمغرب، مفادها هل يوجد أصلا تعاقد من هذا النوع بين القوى ذات العلاقات و المصالح، يجعل نظام الحكم يعمل كأن الأمر محسوم فيه؟ وهل فكرة التعاقد السياسي هو شرط مسبق أم لاحق للنظام؟
يعتبر المغرب من الدول التي لم يندمج المجتمع فيها اندماجا تاما بنظام الحكم، أي الصراع حول طبيعة الدولة وأسس مشروعية نمط الحكم كان منذ الحصول على الاستقلال، ليس فقط بين الجماعات والقوى المنظمة من اجل احتكار السلطة أو اقتسامها بل هناك كذلك بين أطراف تتنافس و تبحث عن فرض مصالح مشروعة و من اجل تكوين عالم اجتماعي خاص بمنظورها الواحد للدولة والمجتمع و هنا نجد التيارات الماركسية في السبعينات أو التيارات الإسلامية فيما بعد، وألان نجد حركة 20 فبراير تعيد سؤال مشروعية وطبيعة نظام الحكم.
بالعودة لخطابات محمد السادس منذ وصوله لسدة الحكم، نجد أنه تحدث عن كل التعاقدات كالميثاق الاجتماعي وصولا إلى التعاقد حول البيئة، ماعدا تعاقد سياسي لم يطرح في الأجندة لسابقة وهو "التعاقد السياسي"، وهو معطى مهم لامسناه في خطاب 9 مارس حيث دعا إلى وضع دستور جديد يؤسس لتعاقد سياسي جديد، ولكن مدى نجاعة هذا الدستور في تحقيق المبتغى؟
التعاقد السياسي عندما توقع عليها جميع الأطراف لأنها تؤمن بأن " جميع الحلول الأخرى كلها أسوأ من ما نحن عليه، وهي مستعدة للتنازل من اجل حل وسط. فكان السؤال المركزي هو كيفية الوصول إلى هذا الحل الوسط؟ وأكثر من ذلك أن يستمر و يدوم بين أطراف هي ليست في حد ذاتها كثل متجانسة ومصنفة بحسب هوياتها البارزة المختلفة : الإسلامية، الاشتراكية، الليبرالية، الامازيغية، الحداثة، التقليدية، الكونية، الخصوصية... وليس وفق معيار وظيفي مستقر أي وفق تحولات رهيفة في الأوضاع كما يقع في الربيع العربي، كما كان التحالف بخصوص فلسطين والعراق...
التعاقد السياسي اليوم يقف في مفترق الطرق، لأننا أمام أصوليتين لم نحسم بعد في إشكاليتهما: إسلامية و مخزنية. الأولى تتكون من جماعات إسلامية محافظة تنادي بالإسلام السني، و ترى في الديمقراطية تقنية و آلية و ليست فلسفة أو أفكار أي أنها وسيلة وليست غاية، وهي تؤيد الحكم التقليدي. وجماعة الإسلاميين الراديكاليون وهم يطالبون بإسلام سياسي يعارضون الحكم المخزني كما يعارضون الديمقراطية، يرفضون التعددية والوقت نفسه الحزب الواحد.
والأصولية الثانية تتمثل في الحكم المخزني الذي لا يرى في الإصلاحات الجوهرية التي تمس بنية النظام السياسي سوى مزايدات انتخابية أو ترفا فكريا متجاوز.
ومادامت الديمقراطية لا يمكنها أن تسود إلا إذا لم يندثر الشك الذي يسود الأطراف بيقين مفاده أن مصيرهم الحقيقي هو التصفية أو شكل آخر اقل حدة من الحل النهائي، أو الانقراض التنظيمي للمعارضين، بمعنى أن تكرس الثقة بين جميع الأطراف. بمعنى أن تحل معادلة الثنائية النصر غير التام "المنفعة" والهزيمة المؤقتة "المخاطرة" بدل معادلة الثنائية النصر التام و الهزيمة المطلقة، فإذا اعتقد طرف معين أن النصر غير التام قد يتحول إلى نصر دائم والهزيمة المؤقتة إلى هزيمة مطلقة، عندئذ يسود عدم الثقة و لا تقوم الديمقراطية بلعب أدوارها ويكون الخيار الوحيد هو الانتصار أو الموت كما قالت "حنة أرندنت" في كتابها "في الثورة"، ولكي تعمل الديمقراطية عملها لابد من تبديل شعار الانتصار أو الموت وهي المأزق الذي سقط فيه جميع الأطراف ومنهم دينامية 20 فبراير عندما تقتبس مقولة عمر المختار "نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت".
نفس المعطى نجده بخصوص الدستور الجديد الذي يقول وبكل صراحة، "إما أن تأكل أو تؤكل"، ويقد تصور أن المعروضات السياسية، بما فيها تخلي الملك عن بعض صلاحياته الشكلية، على أنها قد رتبت ترتيبا دائما ودقيقا، دون الغوص في شرط تغيير نمط السلطة الحالي أو في التوزيع العادل للسلطة والثروة، مما يجعل السؤال اللينيني يفرض نفسه من جديد "من يأكل من"؟
في الظرفية التاريخية الحالية لم نستطع أن نؤسس لتعاقد سياسي على مستويين:
مستوى أفقي بينا الفاعلين والقوى السياسية والجماعات الضاغطة، وهنا نقصد تعاقد مع اليسار المعارض من جهة ومن جهة أخرى جماعة العدل والعدل وباقي الأحزاب الأخرى، حول أي مشروع مجتمعي يمكن أن يتعايش فيه الجميع، وتم ترك حركة 20 فبراير مثل تلك الشماعة التي تعلق عليها الأخطاء ويتم استثمار المنافع من قبل هذه القوى في مزايدات سياسوية أو انتخابوية؛
ومستوى عمودي، بين المجتمع والدولة، حيث لم يفرز ذلك الدستور الجديد الميثاق السياسي الذي وعدنا به في ليلة ممطرة من ليالي شهر مارس؛
مما يجعل شرعية الاحتجاج والبقاء في الشارع مشروعة في أفق أن تبرز بوادر جديدة يمكن أن تؤسس لمنهجية جديدة "لتعاقد سياسي جديد".
تعليقات