صناعة الاحزاب نمودج الاصالة والمعاصرة
يعتبر النظام السياسي المغربي من الأنظمة السياسية التي تراقب الحقل الحزبي، حتى يبدو وكأن كل شيء مرتب للحيلولة دون ظهور حزب أغلبي حقيقي نابع من إرادة الشعب، وذلك على أساس أن النسق السياسي عبارة عن ملكية حاكمة نقيظ لنظام برلماني أغلبي الذي لا معنى للحزب الأغلبي خارجه، كما أصل التعددية في المغرب تعود إلى فكرة منع أي حزب من الحصول على الأغلبية، سواء من خلال دعم الانشقاقات أو خلق أحزاب سياسية جديدة قريبة من القصر، فالنظام حريص دائما على أن يحكم من خلال حزب يتم تمكينه من الحكومة باسم الأغلبية ليتم توظيفه كأداة لتنفيذ خيارات النظام السلطوي.
هذه المفارقات هي التي تتطلب منا البحث عن كيفية صناعة الأحزاب السياسية منذ الستينات وكذا بالدور الذي يمكن أن يقدم "الوافد الجديد"[1] داخل الخريطة الحزبية.
المطلب الأول: صناعة الأحزاب السياسية
إن المتبع للحياة السياسية المغربي منذ الاستقلال إلى الأن يلاحظ أن بعض الأحزاب السياسية لم تنشأ كسيرورة تطور مطالب مجتمعية أو لم يكن لحظة روتينية في ممارسة سياسية عادية بقدر ما كانت عبارة عن أحزاب سياسية تستعملها الملكية لتمكنها من إعادة ضبط التوازن السياسي في لحظة سياسية معينة ويمكن الجزم بأنها عبارة عن أحزاب ملكية بالوكالة.
وفي هذا الإطار يمكن القول أن تأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) كانت بمثابة آلية لضبط التوازنات المؤسسة وبالتالي الانفراد بالحكم، وذلك بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم[2]، حيث وجد الحكم نفسه أمام رهان مزدوج: البحث عن تشكيلة سياسية يستطيع أن يحكم بواسطتها وفي الوقت ذاته قطع الطريق أمام حزب الاستقلال الذي كان يسعى لحصد الأغلبية التي تمكنه من تعديل الدستور حسب اعتقاد أحمد رضا اكديرة الذي ستسند له مهمة تأسيس ورئاسة (الفديك).
فتشكلت هذه الأخيرة في مارس 1963 بعد أقل من شهرين من الانتخابات التشريعية التي أجريت في 17 ماي وقد اتخذت شكل ائتلاف بين قوى غير متجانسة، يمكن اعتبار الولاء للعرش هو القاسم المشترك[3] الوحيد بينها، يرأسه أحمد رضا اكديرة الذي كان يرغب في جعلها حزبا سياسيا موحدا، وقد ضمت الجبهة التي انضم إليها بعض الوزراء[4]، بهدف الترويج لها الأطراف الثلاثة التالية: الأحرار المستقلين، الحركة الشعبية، حزب الدستور الديمقراطي.
وبالتالي فإن سياق نشأة الفديك وملابسات العملية الانتخابية التي سعى من خلالها الحكم شرعنة الحزب الأغلبي، هي نفسها التي كانت تحمل أسباب وعوامل فشل هذه التجربة والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين من الأسباب والعوامل:
· طبيعة الأغلبية التي مثلتها الحكومة المؤسسة على الجبهة والتي لم تكن سوى أغلبية نسبية، إضافة إلى مشكل الانسجام بين مكوناتها، وانشقاق احرضان عن الجبهة.
· المناخ السياسي العام للبلاد وظروفها السوسيو اقتصادية، فبالإضافة إلى انعدام أرضية توافق بين الملكية والمعارضة حول قواعد اللعبة البرلمانية[5] ساعد تدهور الأوضاع الاقتصادية على زيادة الاحتقان السياسي الذي بلغ ذروته بطرح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ملتمس رقابة ضد الحكومة وهي الخطوة التي رد عليها الملك بالتهديد باللجوء للفصل 35 من الدستور[6].
بعد تجربة "الفديك" ستكون تجربة الأحرار التي كانت الغاية هي تنفيذ برنامج الاستقرار والتثبت الاقتصادي، فظهور حزب التجمع الوطني للأحرار ومنحه الشرعية بواسطة انتخابات 1977 تزامن مع ظروف سياسية وسوسيو اقتصادية مختلفة نسبيا عن تلك التي أفرزت الفديك. غير أن الأبعاد كانت حاسمة ومتعددة بالنسبة للمؤسسة الملكية التي وجدت نفسها أيضا أمام تحد مزدوج:
· ضرورة استثمار الإجماع الحاصل حول قضية الصحراء المغربية لتعزيز مكانة المؤسسة الملكية كفاعل مركزي من جهة وتكريس مسلسل تحويل المعارضة من معارضة النظام إلى المعارضة داخل النظام من جهة أخرى وهو ما جعل انتخابات 1977 كنقطة انطلاقة مسلسل الانفتاح أو ما سوف يعرف فيما بعد بالديمقراطية الحسنية.
· الحد من تأثير تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على موارد مشروعية النظام السياسي، فقد أدى الانخفاض الكبير والمفاجئ لأسعار البترول إلى عجز الميزان التجاري[7]. والتنسيق مع صندوق النقد الدولي في إطار ما عرف بسياسة الاستقرار والتثبيت الاقتصادي والتي شرع في تطبيقها منذ 1978[8].
غير أن هذه السياسة أي سياسة الاستقرار والتثبيت الاقتصادي ستكون لها تداعيات اجتماعية كارثية توجت بانتفاضات شعبية عارمة عقب تجميد صندوق المقاصة وسقوط العديد من الضحايا المحتجين على ارتفاع ثمن الخبز[9].
وبالموازاة مع ذلك سوف تظهر بوادر الانشقاق داخل الحزب بانفصال 60 نائبا أعلنوا عن خروجهم من حزب أحمد عصمان وتشكيل حزب الوطني الديمقراطي سنة 1982.
أمام هذا الاحتقان الاجتماعي سيضطر المغرب للدخول في برنامج التقويم الهيكلي مما سوف يجعله البحث عن تشكيلة حزبية جديدة يمنحها الأغلبية ويوظفها كأداة للتعاطي مع المعطيات الجديدة والتي سوف تتجسد في الاتحاد الدستوري.
ففي بداية الثمانينات من القرن الماضي سوف يجد النظام نفسه أمام تحد جديد يتمثل في ضرورة العمل من أجل إخراج البلاد من النفق الذي أدخلته السياسات الاقتصادية والاجتماعية السابقة وذلك من خلال برنامج التقويم الهيكلي، الذي فرضته المؤسسات المالية منذ 1983، ولتحقيق ذلك تم توضيف انتخابات 1984 التي منع فيها اللامنتمون من الترشيح، لخلق حزب يتبنى الليبرالية ولم يكن هذا الحزب غير الاتحاد الدستوري برئاسة الراحل المعطي بوعبيد. وذلك بناء على توافق حصل بين وزارة الداخلية وبعض الأحزاب السياسية على أساس توزيع المقاعد حسب الخريطة المطلوب رسمها. في حين لم تترك إلا ربع الدوائر المتبارى حولها ليحسم فيها الناخبون[10].
من خلال هذه الأحزاب السياسية والتي تشكلت في لحظات سياسية مفصلية من أجل تأدية دور معين، يطرح تساؤل حول الهدف من تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة وفي اللحظة الراهنة، والتي تعرف تشردما في الأحزاب السياسية وضعف المشاركة السياسية بعد نتائج انتخابات 7 شتنبر 2007.
المطلب الثاني: حزب الأصالة والمعاصرة وإعادة تشكيل الخريطة الحزبية بالمغرب
تعاني الأحزاب السياسية المغربية من مجموعة من المشاكل والانحرافات الذاتية والتي تبقى هي نفسها مسؤولة بالدرجة الأولى عن وجودها مما يجعلها تساهم في تأزيم الحياة الحزبية, وهده المشاكل ترتبط بعضها ببعض من ذلك مثلا غياب الديمقراطية الداخلية، عدم تجديد وتشبيب الزعامات، عدم تجديد الهياكل الحزبية، عدم عقد المؤتمرات في الآجال القانونية، ضعف الأداء الحزبي على مستوى تأطير المواطنين وتوعية الرأي العام، وكذا مشكل تحول الأحزاب من مؤسسات تخدم الشأن العام وتحقيق المصلحة العامة إلى دكاكين نفعية تطغى عليها اعتبارات المصلحة الخاصة مما يجعل العمل السياسي مرادفا للانتهازية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تكريس العزوف السياسي وفقدان ثقة المواطنين في جدوى ومصداقية العمل السياسي، وهناك أيضا مشكل عجز الأحزاب السياسية عن فرز وإنتاج نخبة منفتحة على فئات واسعة من الشعب، وبالتالي ردم الهوة بينها وبين المواطنين خاصة منهم الشباب وهذا فضلا عن مشكل عدم امتلاك الأحزاب لهوية سياسية وإيديولوجية واضحة وافتقادها لبرامج سياسية ومشاريع اجتماعية حقيقية قابلة للانجاز والتطبيق.
إن عدم توفر الأحزاب السياسية على إيديولوجية واضحة المعالم يستقل بها كل حزب عن غيره[11]، يجعل من وجود عدة أحزاب لا يعني وجود تمثيلية سياسية، وإنما تعددية وهمية ومصطنعة[12]. وهو الأمر الذي لاحظه أيضا بعض الباحثين الأجانب ونذكر منهم على سبيل المثال مشيل كامو، الذي اعتبر التعددية الحزبية في المغرب شكلا من أشكال التوحد الإيديولوجي[13].
وعلى هذا الأساس فإن دور حزب الأصالة والمعاصرة تتمثل في بناء قطب ليبرالي، ويتمتع بميكانيزمات حداثية لا تقل عن تلك المتواجدة في التجارب الديمقراطية الغربية[14]. وهذا يعني في المقابل وبشكل أوتوماتيكي خلق قطب يساري، إلا أن الممارسة الحزبية والمؤسساتية أثبتت العكس، وذلك بتقارب بين كل من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية خاصة فيما يتعلق بمشروع قانون الميثاق الجماعي على مستوى مجلس النواب[15].
ويمكن القول أن هذا الالتباس يعد إحدى أهم سمات "العهد الجديد" بين خطاب تأهيل الأحزاب السياسية والذي يعطي الانطباع بوجود إرادة لانتشال الأحزاب من أزمتها وتفعيل دورها في تحديد وصنع السياسات العمومية من جهة وبين الحدود العملية التي تكرس تخلف الممارسة الحزبية بالمغرب.
كما أن تشكل الحقل الحزبي يعني هو سيرورة تحول مجتمعي معين وظهور مطالب اجتماعية تتحول إلى مطالب سياسية يحملها حزب سياسي ما من أجل تلبية تلك المطالب، فقيمة الحزب السياسي المضافة في الحياة السياسية هو طبيعة المشروع المجتمعي الذي يحمله والذي يجد عمقه الاجتماعي في الشريحة أو الشرائح الاجتماعية التي يعبر عن مصالحها ويعكس رؤيتها لمختلف القضايا الاجتماعية على اعتبار أن الحزب السياسي ليس سوى أداة لمأسسة الاختلاف داخل المجتمع بشكل يتيح تصريفها بشكل ايجابي دون المساس بوحدة المجتمع.
وهذا ما لا يمكن لمسه في حزب الأصالة والمعاصرة والذي أخذ على عاتقه إعادة تشكيل الخريطة الحزبية بشكل فوقي دون اعتبار لخصوصية النظام السياسي المغربي، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار العلاقات السياسية العقلانية بقدر ما تهيمن عليه العلاقات التقليدية.
وهذا الكلام يجرنا للحديث عن خطاب الدولة في موضوع إصلاح الأحزاب السياسية الدي ينطوي على مفارقة، حيث تدعو الدولة إلى إصلاح الأحزاب السياسية نجدها في نفس الوقت تحجم عن الإصلاح السياسي والدستوري، الأمر الذي يوحي بعدم وجود إرادة حقيقية لدى الدولة لتجاوز المعضلة الحزبية، بل أكثر من ذلك فإن الدولة كانت ولا تزال المسؤولة عن تمييع الحياة الحزبية من خلال لجوئها إلى ممارسات وسلوكات تحكيمية تكرس وتعمق الأزمة الحزبية وخاصة بإنشاء حزب سياسي قريب من النظام، كما أن الدولة لازالت تتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب. وأبرز مثال على ذلك ما حصل للعدالة والتنمية بعد أحداث 16 ماي بالضغط على الحزب على تحجيم مشاركته في انتخاب 2003 وكذا الضغط على قضية انتخاب مصطفى الرميد كرئيس للفريق النيابي.
وما دمنا بصدد الحديث عن أسلوب الدولة في التعامل مع الأحزاب السياسية نشير إلى مسألة تعيين إدريس جطو كوزير أول وتعيين بعض الوزراء التقنوقراطيين في الحكومة الحالية، وعملية الاستوزار, يعني استمرار تطبيق برنامج الدولة التكنوقراطي وعدم إمكانية تطبيق برامج الأحزاب السياسية التي حظيت بموافقة الناخبين لا يشجع بتاتا على تأهيل الأحزاب السياسية. ولذلك فإن تأهيل الأحزاب السياسية غير مرتبط بخلق حزب سياسي بقدر ما هو مرتبط بتأهيل وإصلاح بنيات ومؤسسات النظام السياسي وفي مقدمتها الدستور باعتبار أن الأحزاب السياسية هي جزء من أزمة سياسة شاملة.
عموما هدا التأسيس لم يكن خاليا من صعوبات و مشاكل خاصة و أننا أمام حقل حزبي لم تكتمل معالمه بعد في مرحلة انتقالية/تحولية, كما أن من قواعد اللعبة السياسية غير تامة وغير متوافق عنها بشكل مؤسساتي بقدر ما كان التوافق سياسي, هده المشاكل تمثلت في خروج احد أقطاب الاندماج الخمسة و اللجوء للقضاء و القطب الثاني فضل التسوية السياسية بإعلانه عن تأسيس حزب جديد.
مع الحذر من استحمال هدا المصطلح دو الصبغة السياسية, و كأننا أمام حقل حزبي محفظ [1]
[2] ضيف (مليكة)، تجربة حكومة عبد الله ابراهيم، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة محمد الخامس أكدال 1987 ص 41.
[3] Pallazolli)Claude( : la mort tente du nationalisme marocain, ANN 1972, p 234.
[4] جون واتربوري، مرجع سابق، ص 221.
[5] نفس المرجع ص 221.
[6] نفس المرجع ص 222.
[7] أديب عبد السلام: السياسة الضريبية وإستراتيجية التنمية، دراسة تحليلية للنظام الجبائي المغربي، إفريقيا الشرق، 1998 ص 133.
[8] نفس المرجع ص 134.
[9] أطلق عليهم إدريس البصري وزير الداخلية آنذاك بشهداء الكوميرا، بلغة مليئة بالسخرية.
[10] محمد معتصم، الحياة السياسية المغربية، 62 -92 , دار ازيس ص 164.
[11] محمد شقير، القرار السياسي في المغرب، دار الألفية مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1992 ص 95.
[12] محمد ظريف، حقوق الإنسان في المغرب دراسة في القانون العام المغربي، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط 1994، ص 701.
[13] Camau )Michel(; la notion de démocratie dans la pensée des dirigeons maghrébins édition CNRS Paris, 1991 p 244.
[14] تصريح لمحمد لهموش في لقاء به، سبقت الإشارة لذلك.
[15] كما يمكن الرجوع لتصريحات كل من إدريس لشكر وعبد الإله بن كيران حول إمكانية التقارب بينهما والتنسيق حول ملفات معينة.
هذه المفارقات هي التي تتطلب منا البحث عن كيفية صناعة الأحزاب السياسية منذ الستينات وكذا بالدور الذي يمكن أن يقدم "الوافد الجديد"[1] داخل الخريطة الحزبية.
المطلب الأول: صناعة الأحزاب السياسية
إن المتبع للحياة السياسية المغربي منذ الاستقلال إلى الأن يلاحظ أن بعض الأحزاب السياسية لم تنشأ كسيرورة تطور مطالب مجتمعية أو لم يكن لحظة روتينية في ممارسة سياسية عادية بقدر ما كانت عبارة عن أحزاب سياسية تستعملها الملكية لتمكنها من إعادة ضبط التوازن السياسي في لحظة سياسية معينة ويمكن الجزم بأنها عبارة عن أحزاب ملكية بالوكالة.
وفي هذا الإطار يمكن القول أن تأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) كانت بمثابة آلية لضبط التوازنات المؤسسة وبالتالي الانفراد بالحكم، وذلك بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم[2]، حيث وجد الحكم نفسه أمام رهان مزدوج: البحث عن تشكيلة سياسية يستطيع أن يحكم بواسطتها وفي الوقت ذاته قطع الطريق أمام حزب الاستقلال الذي كان يسعى لحصد الأغلبية التي تمكنه من تعديل الدستور حسب اعتقاد أحمد رضا اكديرة الذي ستسند له مهمة تأسيس ورئاسة (الفديك).
فتشكلت هذه الأخيرة في مارس 1963 بعد أقل من شهرين من الانتخابات التشريعية التي أجريت في 17 ماي وقد اتخذت شكل ائتلاف بين قوى غير متجانسة، يمكن اعتبار الولاء للعرش هو القاسم المشترك[3] الوحيد بينها، يرأسه أحمد رضا اكديرة الذي كان يرغب في جعلها حزبا سياسيا موحدا، وقد ضمت الجبهة التي انضم إليها بعض الوزراء[4]، بهدف الترويج لها الأطراف الثلاثة التالية: الأحرار المستقلين، الحركة الشعبية، حزب الدستور الديمقراطي.
وبالتالي فإن سياق نشأة الفديك وملابسات العملية الانتخابية التي سعى من خلالها الحكم شرعنة الحزب الأغلبي، هي نفسها التي كانت تحمل أسباب وعوامل فشل هذه التجربة والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين من الأسباب والعوامل:
· طبيعة الأغلبية التي مثلتها الحكومة المؤسسة على الجبهة والتي لم تكن سوى أغلبية نسبية، إضافة إلى مشكل الانسجام بين مكوناتها، وانشقاق احرضان عن الجبهة.
· المناخ السياسي العام للبلاد وظروفها السوسيو اقتصادية، فبالإضافة إلى انعدام أرضية توافق بين الملكية والمعارضة حول قواعد اللعبة البرلمانية[5] ساعد تدهور الأوضاع الاقتصادية على زيادة الاحتقان السياسي الذي بلغ ذروته بطرح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ملتمس رقابة ضد الحكومة وهي الخطوة التي رد عليها الملك بالتهديد باللجوء للفصل 35 من الدستور[6].
بعد تجربة "الفديك" ستكون تجربة الأحرار التي كانت الغاية هي تنفيذ برنامج الاستقرار والتثبت الاقتصادي، فظهور حزب التجمع الوطني للأحرار ومنحه الشرعية بواسطة انتخابات 1977 تزامن مع ظروف سياسية وسوسيو اقتصادية مختلفة نسبيا عن تلك التي أفرزت الفديك. غير أن الأبعاد كانت حاسمة ومتعددة بالنسبة للمؤسسة الملكية التي وجدت نفسها أيضا أمام تحد مزدوج:
· ضرورة استثمار الإجماع الحاصل حول قضية الصحراء المغربية لتعزيز مكانة المؤسسة الملكية كفاعل مركزي من جهة وتكريس مسلسل تحويل المعارضة من معارضة النظام إلى المعارضة داخل النظام من جهة أخرى وهو ما جعل انتخابات 1977 كنقطة انطلاقة مسلسل الانفتاح أو ما سوف يعرف فيما بعد بالديمقراطية الحسنية.
· الحد من تأثير تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على موارد مشروعية النظام السياسي، فقد أدى الانخفاض الكبير والمفاجئ لأسعار البترول إلى عجز الميزان التجاري[7]. والتنسيق مع صندوق النقد الدولي في إطار ما عرف بسياسة الاستقرار والتثبيت الاقتصادي والتي شرع في تطبيقها منذ 1978[8].
غير أن هذه السياسة أي سياسة الاستقرار والتثبيت الاقتصادي ستكون لها تداعيات اجتماعية كارثية توجت بانتفاضات شعبية عارمة عقب تجميد صندوق المقاصة وسقوط العديد من الضحايا المحتجين على ارتفاع ثمن الخبز[9].
وبالموازاة مع ذلك سوف تظهر بوادر الانشقاق داخل الحزب بانفصال 60 نائبا أعلنوا عن خروجهم من حزب أحمد عصمان وتشكيل حزب الوطني الديمقراطي سنة 1982.
أمام هذا الاحتقان الاجتماعي سيضطر المغرب للدخول في برنامج التقويم الهيكلي مما سوف يجعله البحث عن تشكيلة حزبية جديدة يمنحها الأغلبية ويوظفها كأداة للتعاطي مع المعطيات الجديدة والتي سوف تتجسد في الاتحاد الدستوري.
ففي بداية الثمانينات من القرن الماضي سوف يجد النظام نفسه أمام تحد جديد يتمثل في ضرورة العمل من أجل إخراج البلاد من النفق الذي أدخلته السياسات الاقتصادية والاجتماعية السابقة وذلك من خلال برنامج التقويم الهيكلي، الذي فرضته المؤسسات المالية منذ 1983، ولتحقيق ذلك تم توضيف انتخابات 1984 التي منع فيها اللامنتمون من الترشيح، لخلق حزب يتبنى الليبرالية ولم يكن هذا الحزب غير الاتحاد الدستوري برئاسة الراحل المعطي بوعبيد. وذلك بناء على توافق حصل بين وزارة الداخلية وبعض الأحزاب السياسية على أساس توزيع المقاعد حسب الخريطة المطلوب رسمها. في حين لم تترك إلا ربع الدوائر المتبارى حولها ليحسم فيها الناخبون[10].
من خلال هذه الأحزاب السياسية والتي تشكلت في لحظات سياسية مفصلية من أجل تأدية دور معين، يطرح تساؤل حول الهدف من تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة وفي اللحظة الراهنة، والتي تعرف تشردما في الأحزاب السياسية وضعف المشاركة السياسية بعد نتائج انتخابات 7 شتنبر 2007.
المطلب الثاني: حزب الأصالة والمعاصرة وإعادة تشكيل الخريطة الحزبية بالمغرب
تعاني الأحزاب السياسية المغربية من مجموعة من المشاكل والانحرافات الذاتية والتي تبقى هي نفسها مسؤولة بالدرجة الأولى عن وجودها مما يجعلها تساهم في تأزيم الحياة الحزبية, وهده المشاكل ترتبط بعضها ببعض من ذلك مثلا غياب الديمقراطية الداخلية، عدم تجديد وتشبيب الزعامات، عدم تجديد الهياكل الحزبية، عدم عقد المؤتمرات في الآجال القانونية، ضعف الأداء الحزبي على مستوى تأطير المواطنين وتوعية الرأي العام، وكذا مشكل تحول الأحزاب من مؤسسات تخدم الشأن العام وتحقيق المصلحة العامة إلى دكاكين نفعية تطغى عليها اعتبارات المصلحة الخاصة مما يجعل العمل السياسي مرادفا للانتهازية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تكريس العزوف السياسي وفقدان ثقة المواطنين في جدوى ومصداقية العمل السياسي، وهناك أيضا مشكل عجز الأحزاب السياسية عن فرز وإنتاج نخبة منفتحة على فئات واسعة من الشعب، وبالتالي ردم الهوة بينها وبين المواطنين خاصة منهم الشباب وهذا فضلا عن مشكل عدم امتلاك الأحزاب لهوية سياسية وإيديولوجية واضحة وافتقادها لبرامج سياسية ومشاريع اجتماعية حقيقية قابلة للانجاز والتطبيق.
إن عدم توفر الأحزاب السياسية على إيديولوجية واضحة المعالم يستقل بها كل حزب عن غيره[11]، يجعل من وجود عدة أحزاب لا يعني وجود تمثيلية سياسية، وإنما تعددية وهمية ومصطنعة[12]. وهو الأمر الذي لاحظه أيضا بعض الباحثين الأجانب ونذكر منهم على سبيل المثال مشيل كامو، الذي اعتبر التعددية الحزبية في المغرب شكلا من أشكال التوحد الإيديولوجي[13].
وعلى هذا الأساس فإن دور حزب الأصالة والمعاصرة تتمثل في بناء قطب ليبرالي، ويتمتع بميكانيزمات حداثية لا تقل عن تلك المتواجدة في التجارب الديمقراطية الغربية[14]. وهذا يعني في المقابل وبشكل أوتوماتيكي خلق قطب يساري، إلا أن الممارسة الحزبية والمؤسساتية أثبتت العكس، وذلك بتقارب بين كل من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية خاصة فيما يتعلق بمشروع قانون الميثاق الجماعي على مستوى مجلس النواب[15].
ويمكن القول أن هذا الالتباس يعد إحدى أهم سمات "العهد الجديد" بين خطاب تأهيل الأحزاب السياسية والذي يعطي الانطباع بوجود إرادة لانتشال الأحزاب من أزمتها وتفعيل دورها في تحديد وصنع السياسات العمومية من جهة وبين الحدود العملية التي تكرس تخلف الممارسة الحزبية بالمغرب.
كما أن تشكل الحقل الحزبي يعني هو سيرورة تحول مجتمعي معين وظهور مطالب اجتماعية تتحول إلى مطالب سياسية يحملها حزب سياسي ما من أجل تلبية تلك المطالب، فقيمة الحزب السياسي المضافة في الحياة السياسية هو طبيعة المشروع المجتمعي الذي يحمله والذي يجد عمقه الاجتماعي في الشريحة أو الشرائح الاجتماعية التي يعبر عن مصالحها ويعكس رؤيتها لمختلف القضايا الاجتماعية على اعتبار أن الحزب السياسي ليس سوى أداة لمأسسة الاختلاف داخل المجتمع بشكل يتيح تصريفها بشكل ايجابي دون المساس بوحدة المجتمع.
وهذا ما لا يمكن لمسه في حزب الأصالة والمعاصرة والذي أخذ على عاتقه إعادة تشكيل الخريطة الحزبية بشكل فوقي دون اعتبار لخصوصية النظام السياسي المغربي، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار العلاقات السياسية العقلانية بقدر ما تهيمن عليه العلاقات التقليدية.
وهذا الكلام يجرنا للحديث عن خطاب الدولة في موضوع إصلاح الأحزاب السياسية الدي ينطوي على مفارقة، حيث تدعو الدولة إلى إصلاح الأحزاب السياسية نجدها في نفس الوقت تحجم عن الإصلاح السياسي والدستوري، الأمر الذي يوحي بعدم وجود إرادة حقيقية لدى الدولة لتجاوز المعضلة الحزبية، بل أكثر من ذلك فإن الدولة كانت ولا تزال المسؤولة عن تمييع الحياة الحزبية من خلال لجوئها إلى ممارسات وسلوكات تحكيمية تكرس وتعمق الأزمة الحزبية وخاصة بإنشاء حزب سياسي قريب من النظام، كما أن الدولة لازالت تتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب. وأبرز مثال على ذلك ما حصل للعدالة والتنمية بعد أحداث 16 ماي بالضغط على الحزب على تحجيم مشاركته في انتخاب 2003 وكذا الضغط على قضية انتخاب مصطفى الرميد كرئيس للفريق النيابي.
وما دمنا بصدد الحديث عن أسلوب الدولة في التعامل مع الأحزاب السياسية نشير إلى مسألة تعيين إدريس جطو كوزير أول وتعيين بعض الوزراء التقنوقراطيين في الحكومة الحالية، وعملية الاستوزار, يعني استمرار تطبيق برنامج الدولة التكنوقراطي وعدم إمكانية تطبيق برامج الأحزاب السياسية التي حظيت بموافقة الناخبين لا يشجع بتاتا على تأهيل الأحزاب السياسية. ولذلك فإن تأهيل الأحزاب السياسية غير مرتبط بخلق حزب سياسي بقدر ما هو مرتبط بتأهيل وإصلاح بنيات ومؤسسات النظام السياسي وفي مقدمتها الدستور باعتبار أن الأحزاب السياسية هي جزء من أزمة سياسة شاملة.
عموما هدا التأسيس لم يكن خاليا من صعوبات و مشاكل خاصة و أننا أمام حقل حزبي لم تكتمل معالمه بعد في مرحلة انتقالية/تحولية, كما أن من قواعد اللعبة السياسية غير تامة وغير متوافق عنها بشكل مؤسساتي بقدر ما كان التوافق سياسي, هده المشاكل تمثلت في خروج احد أقطاب الاندماج الخمسة و اللجوء للقضاء و القطب الثاني فضل التسوية السياسية بإعلانه عن تأسيس حزب جديد.
مع الحذر من استحمال هدا المصطلح دو الصبغة السياسية, و كأننا أمام حقل حزبي محفظ [1]
[2] ضيف (مليكة)، تجربة حكومة عبد الله ابراهيم، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة محمد الخامس أكدال 1987 ص 41.
[3] Pallazolli)Claude( : la mort tente du nationalisme marocain, ANN 1972, p 234.
[4] جون واتربوري، مرجع سابق، ص 221.
[5] نفس المرجع ص 221.
[6] نفس المرجع ص 222.
[7] أديب عبد السلام: السياسة الضريبية وإستراتيجية التنمية، دراسة تحليلية للنظام الجبائي المغربي، إفريقيا الشرق، 1998 ص 133.
[8] نفس المرجع ص 134.
[9] أطلق عليهم إدريس البصري وزير الداخلية آنذاك بشهداء الكوميرا، بلغة مليئة بالسخرية.
[10] محمد معتصم، الحياة السياسية المغربية، 62 -92 , دار ازيس ص 164.
[11] محمد شقير، القرار السياسي في المغرب، دار الألفية مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1992 ص 95.
[12] محمد ظريف، حقوق الإنسان في المغرب دراسة في القانون العام المغربي، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط 1994، ص 701.
[13] Camau )Michel(; la notion de démocratie dans la pensée des dirigeons maghrébins édition CNRS Paris, 1991 p 244.
[14] تصريح لمحمد لهموش في لقاء به، سبقت الإشارة لذلك.
[15] كما يمكن الرجوع لتصريحات كل من إدريس لشكر وعبد الإله بن كيران حول إمكانية التقارب بينهما والتنسيق حول ملفات معينة.
تعليقات